تجددت آلام صناعة النشر والقائمين عليها مع إعلان فتح باب الاشتراك في الدورة 57 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، المنتظرة في الفترة من الأربعاء 21 يناير حتى الثلاثاء 3 فبراير 2026. وأقول تجددت لأنها كامنة في جسد الصناعة وأطرافها متواصلة ومستمرة وشاخصة في أدق تفاصيلها طول الوقت، والحقيقة ألا أحد يهتم ولا حياة لمن تنادي، وكأن كل ما يتصل برفع الوعي والارتقاء بالوجدان بات -إن وُجد- على هامش اهتمامات الدولة، وفي مقدمتها الرؤساء التنفيذيون المسؤولون كل في موقعه عما يتصل بإعادة صياغة العقل الجمعي المصري وتطوير ملامح الشخصية المصرية. تسمع منهم فقط «كلاشيهات» يرددونها كالببغاوت عن إعادة إحياء الذاكرة الوطنية وتعزيز الهوية المصرية، وخلافه من أفكار وعبارات وشعارات نمطية أصبحت مبتذلة من فرط تكرارها حتى فقدت معناها الأصلي وقيمتها وتأثيرها، فلا تجدها واقعًا على الأرض بقدر ما ترددت فقاعات في الهواء!
لا تندهش -إن كنت واحدًا منهم أو منحازًا لهم- وتندفع تعدد الأنشطة والفعاليات والمعارض والمهرجانات الرسمية المتصلة بمختلف أوجه الفكر والفن والثقافة. فقط اسأل نفسك بأمانة عن سُعار منطق «التاجر» المتحكم مؤخرًا في كل هذه الملفات، المتصلة في النهاية بما لا يمكن تسعيره للجمهور كأي سلعة أو خدمة في أي مجال آخر، أنشطة الفكر والفن والثقافة لا بد ألا تفقد قيمتها الفاعلة كرسالة في المقام الأول قبل أن تكون تجارة، وفرق كبير بين مراعاة اقتصاديات هذه الأنشطة كصناعة وبين أن تصبح تجارة أولًا وأخيرًا، ومراجعة وافية لأسعار الجمهور في مختلف هذه الأنشطة العام الجاري فقط 2025 تؤكد ما نقول.
فإذا ما عدنا إلى ملف معرض القاهرة الدولي للكتاب 2026، فإن أسعار إيجار أجنحة المعرض للناشرين أعضاء الاتحاد المصري للناشرين وطوال مدته التي لا تتجاوز 14 يومًا هي دائمًا صدمة المعرض الأولى والكبرى كل سنة، أقلها مساحة -9 أمتار- هذا العام إيجارها 24300 جنيه بزيادة قدرها 46.3% عن العام الماضي حيث كان إيجار نفس المساحة 1660 جنيهات. وكلما تضاعفت المساحة تضاعفت نسبة زيادة الإيجار حتى تصل إلى أكثر من 100% في 117 مترا هي أكبر المساحات وما زاد عليها، والتقليعة -التجارية- الجديدة هذا العام تقليعة تخصيص أجنحة مميزة للناشرين المصريين أعضاء الاتحاد المصري للناشرين بسعر المتر 6000 جنيه، وقتها تزيد تكلفة المساحة الـ9 أمتار إلى أكثر من الضعف!
تطالع الكتالوج الأنيق لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، فلا تجده في حقيقته إلا مدونة قيود تزيد أعباء الناشرين، وتعوق منافذ تحقيق عوائد تغطي حتى تكاليف المعرض، من إيجار جناح وإنتاج كتب ودعاية وتسويق ومستلزمات بيع وشحن وفرش وإعاشة يومية وخلافه من مصاريف نثرية، أول خطوط الكتالوج الحمراء تؤكد أنه «لا يُسمح في معرض القاهرة الدولي للكتاب بعرض أي منتج غير مرتبط بالترويج لصناعة النشر»، وتقرأ الأمثلة المطروحة «البوسترات وسلة الهدايا والأواني الفخارية الدعائية والميداليات والشنط القماش والأقلام والاكسسوارات والتيشيرتات»، فتنهدش متسائلًا: ألا تساهم كل هذه كمواد دعاية في الترويج للكتاب سلعة المعرض الأساسية؟!
ثاني خطوط الكتالوج الحمراء، خاصة بمنع تجاوز العرض أو الدعاية المساحة المخصصة وشغل ممرات الزائرين، حتى لا يتم توقيع غرامة مالية قيمتها مرتبطة بإجمالي سعر المساحة وفقًا للائحة الجزاءات، فأنت هنا كناشر غير مسموح لك بوضع ستاند عرض صغير أو بانر دعائي أمام جناحك حتى وإن كان لا يعوق ممرات الزائرين، والغرامة كما ترى مرتبطة بإجمالي سعر المساحة، يعني نفس المخالفة تتضاعف قيمة غرامتها كلما تضاعفت مساحة الجناح المخالف، وأي غرامات مالية من أي نوع يجب سدادها خلال 48 ساعة بخزينة الهيئة العامة للكتاب بوسائل الدفع الإلكترونية، كما أن هناك 3% غرامة إضافية عن كل يوم تأخير في سداد قيمة المخالفات، وإغلاق الجناح على الفور وارد!
كتالوج المعرض ينوه أيضًا إلى إصدار كتالوج دعائي يضم أسماء دور النشر المشاركة وأرقام أجنحتها، بالإضافة إلى صفحات إعلانية ألوان قيمة الصفحة 7 آلاف جنيه للناشر المصري و300 دولار للناشر الأجنبي، كما يؤكد في الفقرة التالية أنه غير مسموح للناشر باصطحاب أي أثاث خارجي ووضعه داخل الأجنحة، وفي حالة رغبته عمل أي ديكورات إضافية بجناحه عليه التقدم بطلب لإدارة المعرض لتنفيذها بواسطة الشركة المسند إليها -حصريًا- أعمال الديكورات الخاصة بالمعرض بحجة الحفاظ على هوية المعرض البصرية.
الناشرون مستأجرو الأجنحة الـ9 أمتار غير مسموح لهم بسداد قيمة إيجار المعرض على دفعتين مثل الناشرين مستأجري المساحات الأكبر، دفعة أولى 50% خلال 72 ساعة من الحصول على موافقة الاشتراك في المعرض، ومثلها بحد أقصى يوم 30 يناير قبل انتهاء المعرض بثلاثة أيام، على سبيل سداده من عوائد المبيعات، كما أن الناشرين مستأجري الأجنحة الـ9 أمتار محظور عليهم الحصول على توكيلات من دور نشر غير مشاركة تسمح بعرض إصداراتها وبيعها من خلال الجناح المشارك وهو إحدى وسائل الناشرين المشاركين في تحقيق عوائد، وكأنك ترتكب ذنبًا إذا استأجرت جناحك بمساحة 9 أمتار فقط!
أما قواعد حفلات التوقيع المفترض أنها تسهم في ترويج الكتاب وتحقيق عوائد مبيعات في نفس الوقت فحدث ولا حرج، سمحت بها إدارة المعرض داخل الأجنحة في الدورة المقبلة للأجنحة 27 مترا فيما يزيد مقابل 3 آلاف جنيه في الساعة، بخلاف المسموح من حجز القاعات المخصصة لحفلات التوقيع مقابل 4 آلاف جنيه في الساعة، وأيضًا الأكشاك المخصصة لحفلات التوقيع في ساحات المعرض المفتوحة مقابل 2000 جنيه في الساعة، وبالمناسبة غير مسموح بالبيع في القاعات أو الأكشاك خلال حفلات التوقيع، القارئ عليه شراء نسخته من جناح الناشر قبل أو بعد حفلات التوقيع في القاعات والأكشاك، الناشر إذًا يجازف بقيمة حجز القاعة أو الكشك أو التوقيع بالجناح، وبما لا يضمن تحقيق عائد بيع يغطي حتى قيمة حجز حفلات التوقيع!
هكذا تضيق الدوائر على الناشرين، حتى إن معرض القاهرة الدولي للكتاب لم يعد موسمهم السنوي المحلي الأهم لضخ الدماء في أوصال الصناعة، أصبحت تكاليفه تستنزف عوائده المتوقعة، بل وتدفع الناشرين دفعًا إلى زيادة أسعار الكتب، المطردة أصلًا خلال السنوات الخمس الماضية نتيجة ارتفاع مستلزمات إنتاج الكتاب، كرد فعل طبيعي لتراجع الجنيه المصري في مواجهة الدولار الأمريكي، فمستلزمات الطباعة الأساسية من ورق وأحبار لا تزال مستوردة.
صحيح أن كل شيء في حياتنا تضاعفت أسعاره في السنوات القليلة الماضية، لكن يظل الكتاب بالنسبة للقارئ سلعة كمالية، الوفاء باحتياجاته الأساسية أولى وأهم، كما أن وسائل القراءة الإلكترونية والصوتية الأقل كُلفة -حتى الآن- والأكثر تنوعًا تخطف القارئ بسهولة بعيدًا عن اقتناء الكتاب الورقي بسعره المتزايد يومًا بعد يوم، والقارئ في هذا معذور، فاشتراك سنوي على تطبيق قراءة إلكترونية مثلًا، يضمن له اقتناء مكتبة متنوعة تضم 30 ألف كتاب على تليفونه المحمول، تضم عددًا لا بأس به من أحدث إصدارات مختلف دور النشر، نفس قيمة الاشتراك في المقابل قد لا تسمح له بشراء أكثر من 5-7 عناوين ورقية!
أسمعك تقول مشهد معرض القاهرة الدولي للكتاب، وتقاريره وتغطياته الإعلامية المتنوعة تؤكد نجاحه عامًا وراء عام، سواء فيما يتعلق بعدد زائريه أو حجم مبيعاته. وهنا يجب مجددًا رصد مغالطة كبرى في هذا السياق، فعدد الزائرين لا يعكس أبدًا بالضرورة ارتفاع مبيعات الكُتب. المعرض يتزامن سنويًا مع إجازة منتصف العام الدراسي، والأسر المصرية تجد فيه متنفسًا يضمن لها شمسًا وهواءً وأنشطة فنية لطيفة هي في مجملها نزهة قد لا ترتبط في معظم الأحوال بشراء الكُتب. كما أن اقتراب موعد شهر رمضان المبارك في السنوات الأخيرة من توقيت المعرض سنويًا، جعل القراء من أرباب الأسر يفكرون ألف مرة في ميزانية رمضان قبل ميزانية شراء الكُتب من المعرض.
الوجه الآخر لمغالطة نجاح معرض القاهرة الدولي للكتاب سنويًا، تتمثل في مقارنة حجم مبيعاته -بالأموال- مقارنة بدوراته السابقة، وأقول مغالطة لأنه مع ارتفاع أسعار الكُتب لا يعكس مؤشر الأموال ارتفاع حجم مبيعات الكُتب، فمليون جنيه هذا العام تعكس عددًا أقل من الكُتب المباعة مقارنة بعام أو أعوام سابقة. المؤشر الأكثر دقة وصوابًا هو المتعلق بإجمالي عدد النسخ المباعة من الكُتب هذا العام مقارنة بدورة أو دورات سابقة، دورة العام الجاري 2025 في يناير الماضي، حفلت بإنتاج كبير من مختلف دور النشر على اختلاف حجم أعمالها، كما أنها قدمت عروضًا وخصومات غير مسبوقة، وصلت إلى أكثر من 50% على عناوين هامة جدًا، ومع ذلك كان الركود سيد الموقف!
ملف صناعة النشر بتحدياته المختلفة على مستوى الإنتاج والتوزيع والتزوير والملكية الفكرية وخلافه، أصبح في حاجة ملحة لأن يأخذ مكانه على أجندة أولويات الدولة، إذا كانت بالفعل تهتم -كما تردد- بضرورة إحياء الذاكرة الوطنية وتعزيز الهوية المصرية، فالكتاب الورقي يظل هو الوثيقة مهما تعددت وتطورت وسائل النشر وتقنياته الرقمية. ولا بد من نفخ الروح فيه قبل فوات الأوان، والفرص لا تزال مواتية قبل معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته المقبلة، علنا نعود بالنشر لأصله كرسالة قبل أن يكون تجارة.