في الآونة الأخيرة، دعا الإعلامي إبراهيم عيسى إلى “نسيان العدوان الصهيوني”، معتبرًا أن التمسك بالذاكرة لا يصنع مستقبلًا أفضل. قد تبدو هذه الدعوة في ظاهرها نابعة من رغبة في تجاوز الألم والسعي نحو السلام، لكنها في حقيقتها تنطوي على تسطيح خطير لمعنى الذاكرة، ومحاولة غير واعية لتجريد الشعوب من أحد أهم أسلحتها الأخلاقية والإنسانية: التذكّر.
فالمجتمعات لا تتقدم بنسيان جراحها، بل بتسميتها، وفهمها، وتحويلها إلى وعي جمعي يقيها من تكرار المأساة.
المشكلة أن هذه الدعوة إلى النسيان تأتي في وقت لم يتحول فيه الفعل بعد إلى ماضٍ، إذ لا يزال العدوان على الفلسطينيين مستمرًا، ولا تزال السجون في مصر تمتلئ بالمعتقلين، ولا يزال القهر يُعاد إنتاجه كل يوم بأشكال مختلفة. كيف يمكن الحديث عن النسيان بينما لم يتوقف الألم أصلًا؟ إن الدعوة إلى “نسيان العدوان” تشبه مطالبة شخصٍ بالنسيان فيما لا يزال الجرح ينزف في جسده. فالنسيان لا يُمارس إلا على الماضي، وما نعيشه هو الحاضر ذاته بكل قسوته واستمراريته.
الذاكرة كدرع ضد الإنكار
تشير بيانات وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن عدد الشهداء في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 تجاوز 67139 شهيدا و169583 مصابا، هذه ليست أرقامًا من كتب التاريخ، بل وقائع من نشرات الأخبار اليومية، أما في مصر، فبحسب تقديرات – صعب أصلا التقديرات لأن النظام يحرص على منع نشر الأعداد والإحصاء الصحيحة – يقبع آلاف من المعتقلين سياسيا خلف القضبان، بعضهم منذ سنوات دون محاكمة، في ظروف إنسانية متدهورة، وبلا أفق للعدالة، أمام هذه الوقائع، تبدو دعوات النسيان أقرب إلى تواطؤ مع استمرار الفعل، لا إلى خطوة نحو تجاوزه.
من منظور علم النفس، النسيان القسري ليس شفاءً بل شكل من أشكال الإنكار، قد يمنح صاحبه شعورًا زائفًا بالراحة المؤقتة، لكنه لا يداوي الألم بل يخزنه في الذاكرة العميقة، تشير دراسات الصدمات النفسية إلى أن المجتمعات التي تُجبر على الصمت أو تُمنع من سرد مآسيها تُعاني مما يُعرف بـ”الصدمة الجمعية المتوارثة”، حيث ينتقل الألم المكبوت من جيل إلى آخر في هيئة خوف أو اغتراب أو انعدام ثقة. إن مواجهة الألم بالسرد والتوثيق والاعتراف هي الطريق الوحيد نحو التعافي، لا طمسه بحجة “عدم استدعاء الماضي”.
من الذاكرة الفردية إلى الوعي الجماعي
في علم الاجتماع السياسي، الذاكرة ليست رفاهية، بل أداة بقاء، هي التي تحفظ معنى العدالة في مواجهة التزييف، وتمنع السلطة من إعادة كتابة التاريخ على هواها. لذلك فإن أول ما يفعله الاستبداد عادة هو السيطرة على الذاكرة: إمّا عبر إعادة صياغتها رسميًا، أو عبر مطالبة الناس بـ”نسيانها” تمامًا. النسيان هنا ليس حيادًا، بل عملية سياسية مقصودة لطمس المسؤوليات وإعفاء المعتدي من الحساب.
وفي المقابل، تُظهر التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية أن مواجهة الماضي بشجاعة، وتحويله إلى ذاكرة جمعية حاضرة في التعليم والإعلام والمجال العام، هو ما مكّن المجتمع من بناء سلام حقيقي مع ذاته. أما في عالمنا العربي، فكثيرًا ما يُطلب من الضحية أن تصمت باسم “المستقبل”، بينما المعتدي لم يعتذر بعد، ولم يغيّر سلوكه. وهنا يتحول النسيان إلى شكل من أشكال التطبيع النفسي مع القهر، لا إلى فعل تصالح.
حين تتقاطع التجارب
ربما جاء الربط بين فلسطين وتجربة السجن في مصر من الإحساس بأن المأساة، مهما اختلفت أشكالها، واحدة في جوهرها. فالحرب في الخارج والاعتقال في الداخل يلتقيان في المعنى نفسه: نزع الحياة من الإنسان، ومحاولة تدمير إرادته وإسكاته. كلاهما تجربة وجودية حافة، تقف بين الحياة والموت، بين الصراخ والصمت. بالنسبة لمن عاش تجربة السجن، يبدو الاعتقال شكلًا آخر من الحرب، ليس فيها سلاح وجيش، بل قهر يومي بطيء يسلب النفس حريتها ويختبر حدود احتماله. وكما تطلب بعض الأصوات من الفلسطينيين “نسيان العدوان”، يُطلب من المعتقلين ومن ذويهم “نسيان ما جرى” باسم العودة إلى الحياة الطبيعية.
ربما لذلك تبدو المآسي متشابكة، لأن جذورها واحدة. كما قالت عبلة كامل في أحد الأفلام: “كله منفد على بعضه.” فالذين اعتُقلوا في مصر بسبب تظاهرات تضامنية مع فلسطين ما زالوا خلف القضبان حتى اليوم، والذين صمتوا خوفًا صاروا أسرى بدورهم. هنا يصبح الحديث عن النسيان حديثًا عن إنكار متصل: إنكار القهر هناك وهنا، في السجن كما في الحرب.
لا سلام دون اعتراف
السلام الحقيقي لا يتحقق عندما يُطلب من الضحية أن تُقنع نفسها بأن ما حدث لم يكن جريمة، بل حين يعترف المعتدي بفعلته ويتوقف عن تكرارها. لا يمكن للمجتمعات أن تتصالح مع ماضيها طالما أن أدوات القمع ما زالت تعمل، والسجون ما زالت ممتلئة، والقصف مازال قائمًا.
الذاكرة في هذا السياق ليست عبئًا، بل فعل مقاومة ضد التطبيع مع الألم. هي رفض واعٍ لتحويل الجريمة إلى حدث عابر. هي تأكيد على أن السلام لا يُبنى على الصمت، بل على العدالة والاعتراف والمحاسبة. النسيان، حين يُفرض قبل تحقق العدالة، ليس سوى شكل من أشكال الإذعان، ومحاولة للتأقلم مع واقع غير مقبول.
التذكّر كواجب عندما يصبح الماضي ماضيًا
قد يأتي يوم يصبح فيه طلب “نسيان” ما حدث طلبًا مهذبًا، لا إنكارًا فجًّا، عندما يتحوّل الجرح فعلًا إلى صفحة من الماضي. عندها فقط يمكن أن يتغير شكل الذاكرة لا معناها، فتصبح التذكرة فعلًا من أفعال الحفظ الأخلاقي لا الغضب، ووسيلة لضمان أن الماضي لن يعود في هيئة جديدة. لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عندما تتوقف إسرائيل عن الاحتلال والقتل في أبرياء، وعندما تتوقف السلطة في مصر عن اعتقال مواطنيها بسبب الرأي، كخطوة أولى في طريق العدالة الحقيقية.
حتى ذلك الحين، سيبقى التذكّر واجبًا لا خيارًا. لأن النسيان في واقعٍ لم يتوقف فيه الألم ليس سلامًا، بل استمرار للقهر بشكل آخر. لأن الذاكرة ليست كراهية، بل فعل مقاومة ضد التطبيع مع الظلم.