رغيف الخبز في مصر ليس مجرد منتج غذائي، بل هو عنوان لاستقرار اقتصادي واجتماعي بالغ الحساسية.
ومع كل أزمة في واردات القمح أو اضطراب في سلاسل التوريد، يعود ملف الأمن الغذائي لواجهة النقاش العام.
لكن هذه المرة يأتي النقاش وسط معطيات أكثر تعقيدًا، وظلال أزمة تتجاوز مجرد انخفاض في الشحنات.
في هذا التقرير، يرصد موقع «القصة» بالأرقام والوقائع تطورات ملف القمح في مصر خلال العام المالي 2024/2025،.
ونحاول الإجابة على سؤال: لماذا لا يواكب الإنتاج المحلي الطلب؟ وأين يذهب القمح الناتج عن المشروعات الزراعية الجديدة؟
الإنتاج المحلي.. ثبات لا يُواكب الطلب
رغم التوسع في الرقعة الزراعية بمناطق الدلتا والصعيد، إلا أن الأرقام ما زالت تكشف عن فجوة خطيرة:
بلغ الإنتاج المحلي نحو 9 ملايين طن.
بينما يصل الاستهلاك السنوي المحلي إلى حوالي 18 مليون طن، ما يعني عجزًا يقترب من 9 ملايين طن سنويًا.
وتدور نسبة الاكتفاء الذاتي حول 50%، وهو رقم مقلق لدولة يتجاوز عدد سكانها 105 ملايين نسمة.
ويعيد خبراء السبب إلى تراجع كفاءة الري، وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج، ومحدودية التكنولوجيا الزراعية، مما أبقى الإنتاج عند مستواه الحالي دون قفزات ملموسة.
واردات القمح.. انخفاض مفاجئ يربك السوق
تعمّقت الأزمة مع تراجع الواردات بشكل ملحوظ، مع تباطؤ في المناقصات وتغيرات في نظم الشراء والدفع.
كما تضمنت أسباب الأزمة تقلبات أسعار الدولار وتكاليف الشحن، والاعتماد على مصادر استيراد محدودة مقارنة بالسنوات السابقة.
المخزون الاستراتيجي.. من الأمان إلى الحذر
تراجع مستوى الأمان النسبي للمخزون، يضع السوق المحلي في مرمى أي اضطراب مفاجئ في الإمدادات العالمية، خاصة مع تقلّب الشحنات من المصادر التقليدية.
الدعم الحكومي.. معادلة صعبة
تواصل الدولة توفير الخبز المدعّم لنحو 70 مليون مواطن.
لكن ضغوط الأسعار وتباطؤ الواردات يضعان منظومة الدعم أمام اختبار الاستمرارية دون المساس بالجودة أو فتح الباب للسوق السوداء.
البورصة السلعية.. ضبط السوق أم مركزية جديدة؟
أُطلقت البورصة السلعية لتقليل التشوهات السعرية ورفع الشفافية، لكن محللين يحذرون من أن تركّز التوريد في يد جهة واحدة قد يعمّق المركزية ويضعف مرونة السوق.
الوليلي: أزمة القمح انعكاس للتغيّرات العالمية ومصر الأكثر تأثرًا
أزمة القمح في مصر ليست أزمة داخلية بحتة، بل انعكاس مباشر للتغيرات العالمية، بحسب النائب مجدي الوليلي، عضو غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات.
تناول الوليلي في تصريحاته لـ”القصة”، تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على أسعار الشحن والتأمين بشكل غير مسبوق، ما أثر على كل الدول المستوردة.
وأكد أن مصر باعتبارها من أكبر مستوردي القمح عالميًا باتت الأكثر تأثرًا بهذه الاضطرابات، وهو ما يضع ملف القمح في صدارة قضايا الأمن الغذائي المصري.
بين الوليلي أن إنتاج هذه المشروعات يُسهم في تقليل الفجوة الغذائية، لكنه لا يغطي كامل الاحتياجات المحلية بعد.
وأكد أن جزءًا من الإنتاج يُخصص لدعم منظومة الخبز والسلع الأساسية، بينما يُوجَّه جزء آخر للتصدير في إطار سياسة الدولة لتوفير موارد من العملة الصعبة، لافتا إلى أن هذه المعادلة تمثل توازنًا بين متطلبات الداخل واحتياجات الاقتصاد القومي.
شدد الوليلي على أن الوصول إلى الاكتفاء الذاتي يتطلب رؤية طويلة المدى تعتمد على التوسع في زراعة المحاصيل الاستراتيجية وتوفير الموارد المائية اللازمة لها.
وأضاف الوليلي، أن تنويع مصادر الاستيراد يظل ضرورة لحماية السوق من أي صدمات خارجية، مؤكدًا أن قضية الأمن الغذائي لا تقل أهمية عن أي ملف سياسي أو اقتصادي آخر، بل تمثل ركيزة للاستقرار الوطني.
خبير: أولوية التصدير تُعمّق الفجوة
قال المهندس حسام رضا، خبير الإرشاد الزراعي، إن السياسة الزراعية في مصر ما زالت تضع التصدير على رأس الأولويات، ما ينعكس في الاهتمام بالمحاصيل التصديرية من خضر وفاكهة، في مقابل تراجع الاهتمام بالمحاصيل الاستراتيجية مثل القمح.
وأضاف أن هناك تنافسًا واضحًا بين غذاء الإنسان (القمح) وغذاء الحيوان (البرسيم)، في ظل محدودية الأراضي الصالحة للزراعة ونُدرة المياه.
وبين رضا، في تصريح خاص لموقع «القصة»، أن سد الفجوة الغذائية يظل أمرًا صعبًا في ظل استمرار هذه السياسة، مشيرًا إلى أن أول تصريح لوزير الزراعة الحالي كان التركيز على جلب الأموال عبر التصدير، دون التطرق إلى وضع خطة واضحة لسد الفجوة الغذائية.
وأشار حسام رضا، إلى أن أبرز التحديات التي تواجه المزارعين تتمثل في غياب التمويل الكافي لمركز البحوث الزراعية، وعدم تفعيل دوره في استنباط أصناف عالية الإنتاجية ومقاومة للأمراض، بجانب غياب جهاز إرشاد زراعي قادر على نقل مشكلات المزارعين إلى مراكز البحوث والعودة بالحلول العملية.
وأكد رضا، أن الاعتماد على الخارج في أي محصول غذائي استراتيجي مثل القمح أو الزيوت النباتية يمثل خطورة بالغة على الأمن الغذائي، خصوصًا إذا كان الاعتماد على دول بعينها.
وأضاف: «كلما قل استهلاك اللحوم زاد استهلاك القمح كبديل لدى الشرائح الأفقر»، محذرًا من سيناريوهات صعبة قد تصل إلى مستوى الكارثة.
ورغم تحسن متوسط إنتاجية الفدان بفضل الأصناف الحديثة، إلا أن السياسة السعرية قد تدفع بعض المزارعين إلى العزوف عن تسليم المحصول للدولة وبيعه بشكل حر للاستفادة المادية الأكبر.
واختتم المهندس حسام رضا، بالتأكيد على أن ملف القمح يجب أن يُدار باعتباره ملف أمن قومي، مع ضرورة وضع سياسة زراعية واضحة ومتكاملة، بدلًا من التركيز فقط على تعظيم حصيلة التصدير لجلب العملة الأجنبية.