عقب سنوات التفاوض التي تزيد عن 10 سنوات، تمسكت مصر والسودان بحقهمها في الوصول لاتفاق قانوني ملزم حول قوائد ملء وتشغيل سد النهضة، إلا أن الجانب الإثيوبي يصر على القرارات الأحادية بداية من التنفيذ وصولاً للتشغيل مع موقف يتسم بالمماطلة والمراوغة فيما تحتفظ القاهرة بحق الرد والخيارات المتعددة التي تكملها بحكم موقعها الجغرافي والجيوسياسي لحفظ أمنها المائي الذي لا يتجزأ عن أمنها القومي.
ففي السنوات الأخيرة، تحول ملف سد النهضة الإثيوبي إلى واحد من أعقد الملفات الاستراتيجية التي تواجه مصر والسودان، ليس فقط لما يمثله من تهديد للأمن المائي والغذائي، بل لارتباطه المباشر بالأمن القومي والاقتصادي، القضية لم تعد مجرد خلاف في حول ملء وتشغيل سد، وإنما معركة سياسية وجيوسياسية ممتدة، تتقاطع فيها مصالح محلية وإقليمية ودولية.
ناقشت «القصة» خبراء المياه والشئون الإفريقية والسياسية، أبعاد الأزمة وما بين أوراق الضغط المصرية، والتأثيرات الفعلية على الزراعة والمياه، وطرحنا أسئلة عن أولويات المفاوض المصري وما هي الخريطة الجديدة للتعامل مع التحديات القادمة.
سنوات الخطر: من 2020 حتى 2024
يوضح الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة: أن التأثير الضار لسد النهضة على مصر كان ملحوظًا خلال السنوات الماضية، بدءًا من عام 2020 وحتى سبتمبر 2024، وهي فترة الملء التدريجي للبحيرة:”في هذه السنوات الخمس، كان في كل سنة بيتم حجز جزء من إيراد مصر المائي السنوي، إلى أن اكتمل التخزين في بحيرة سد النهضة في سبتمبر 2024، بعدها بقى في هذا العام بما أن البحيرة اكتملت، فالإيراد لهذا العام سوف يأتي كاملا، لأنه لا يوجد مكان لتخزين كميات إضافية”.
ويضيف أن مصر عانت من تغير في مواعيد وصول المياه، إذ اعتادت أن تصل في أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر، لكن مع تشغيل السد أصبح التدفق موزعًا على مدار شهور السنة بشكل غير منتظم.
غياب التنسيق.. الخطر المستمر
يشدد “شراقي” على أن انتهاء الملء لا يعني زوال الأزمة، موضحًا: “يظل الضرر الموجود حاليًا هو عدم التنسيق، لأن حتى الأن لا توجد اتفاق بين مصر وإثيوبيا على طريقة التشغيل ولا معرفة عدد التوربينات التى ستستعمل، التوربين لما بيعمل معناها كمية مياه معينة، وكل ما زاد عدد التوربينات كل ما زاد كمية المياه اللي توصل لمصر”.
ويتابع:”عدم التنسيق سيسبب حجب كميات كبيرة ، وفي أيام ممكن البوابات مقفولة مفيش مياه خالص وده لا يجوز. لازم يكون فيه اتفاق أو تبادل معلومات بحيث كل الدول الثلاثة تبقى عارفة منظومة تشغيل السدود”.
إدارة مصر للأزمة.. كيف تغلبت على الخطر؟
يكشف شراقي لـ «القصة» أن مصر تمكنت من امتصاص صدمة نقص المياه خلال سنوات الملء الخمس، من خلال حزمة إجراءات:”صرفنا كميات من مياه السد العالي لتعويض ما تم تخزينه في إثيوبيا، والمواطن المصري لم يشعر بهذا النقص، وكمان زودنا الاحتياطي من السد العالي من ترشيد الاستهلاك، وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، واستخدام جزء من المياه الجوفية. قللنا مساحات الأرز، واستبدلنا قصب السكر بمحاصيل أقل استهلاكًا مثل بنجر السكر”.
وأشار إلى أن تكلفة هذه الإجراءات بلغت نحو 500 مليار جنيه، تحملتها الدولة في صورة مشروعات مائية عملاقة، حتى لا يشعر المواطن بأي نقص.
السودان.. المتضرر الأكبر أم الرابح؟
يلفت شراقي لـ « القصة»: إلى أن وضع السودان يختلف عن مصر، قائلاً: “السودان يعتبر في أحسن حال من مصر، لأن المياه اللي بتخرج من سد النهضة بتعدي من على السودان، فياخد كل اللي عايز والمتبقي هو اللي ييجي مصر، حتى في سنوات الملء الماضية، السودان أخذ حصته كاملة، ومصر هي اللي تحملت العجز”.
أوراق الضغط المصرية.. الجغرافيا والسياسة
من جانبها، تطرح الخبيرة السياسية أماني الطويل رؤية شاملة لأوراق الضغط المصرية في مواجهة التعنت الإثيوبي، مؤكدة أن الخيارات لم تعد محصورة قائلة: “بالتأكيد المفاوضات لن تكون طريقا في مسألة سد النهضة بعد الآن، ده قرار للحكومة المصرية، الآن خيارات الضغط الدبلوماسي مصر بتمارسها، وكمان خيارات الضغط الجيوسياسي، بمعنى إن الوجود المصري في الصومال يمثل ضغطًا جيوسياسيًا على إثيوبيا، وهو يجعل مشروعاتها في البحر الأحمر تحت ضغط كبير”.
السودان في قلب المشهد
وتضيف: السودان لديه أولوية في الاهتمام بسبب سد الروصيرص اللي بعيد عن سد النهضة 15 كيلو، وبالتالي إلزام إثيوبيا بتوفير المعلومات المناسبة في صرف الموارد المائية المهم لخزان الروصيرص، وربما ده كان موضوع الاتفاق اللي لم يُعلن عنه وأعلن عنه مؤخرًا بين السودان وإثيوبيا على المستوى الخليجي”.
وتتابع: “أيضًا تحاول مصر أن تستغل الاهتمام الأمريكي بهذه القضية للمضي قدمًا في مسألة وجود قانون بين الأطراف الثلاثة”.
قوة الدور المصري
ترى الطويل أن مصر تمتلك أدوات نوعية وذلك من خلال أن “مصر لديها خيارات متعددة وليس خيارًا واحدًا بحكم موقعها الجيوسياسي وأدوارها في الشرق الأوسط وإفريقيا، وبالتالي لديها أوراق نوعية للتعامل مع هذا الملف، وخصوصًا في ضوء عدم انخراط إثيوبيا في إدارة سد النهضة من حيث تشغيل التوربينات، من حيث إقناع حتى المحيط الإفريقي”.
وتضيف:”نلاحظ أنه في افتتاح سد النهضة لم يحضر إلا أربع رؤساء فقط هم دول جوار إثيوبيا المباشرة، وبالتالي أعتقد ده نجاح كبير في أدوار الدبلوماسية المصرية اللي بتستخدمها وبطريقة غير علانية”.
تحالف مصري سوداني.. ضرورة استراتيجية
وتختم الطويل حديثها قائله بأن :”مصر والسودان يحاولان أن يكونا نوعا من أنواع التحالف ضد إثيوبيا، لأن مصالحهما على المستوى القصير والمتوسط والبعيد متضررة، وأن حجم الأضرار في السودان أكبر من مصر، وبالتالي هنا التحالف مع السودان يكتسب ميزة نسبية، هي فكرة التواصل الاجتماعي بين مصر والسودان هو الضغط على إثيوبيا، وبالتالي في إطار العلاقة الثنائية في خطط وتحسين لهذا العلاقات للمضي قدمًا نحو الوسط والتعاون الاقتصادي والتنموي”.
يكشف الملف أن سد النهضة لم يعد مجرد مشروع إثيوبي لتوليد الكهرباء، بل أصبح ورقة سياسية وجيوسياسية تضغط على مصر والسودان، ورغم أن القاهرة استطاعت امتصاص الصدمات المائية عبر السد العالي ومشروعات معالجة المياه، إلا أن الخطر الحقيقي يظل في غياب التنسيق والاتفاق القانوني الملزم.
وبينما تؤكد أماني الطويل على أوراق القوة المصرية في الجغرافيا والسياسة والدبلوماسية، يوضح عباس شراقي أن الإدارة الفنية الرشيدة من جانب مصر أنقذت البلاد من أزمة عطش محققة، ومع استمرار غياب الاتفاق، تبقى الأزمة مفتوحة على كل السيناريوهات، في انتظار ما ستكشفه السنوات المقبلة.