في خضم الأحداث المتسارعة بالمنطقة، لم يغب اسم مصر عن صفحات الصحف العبرية أو شاشات القنوات الإسرائيلية، فبينما تُصور القاهرة تارة كـ”وسيط” لا غنى عنه في ملفات غزة والأمن الإقليمي، لا تخلو بعض المقالات والتحليلات من نبرة تشكيك أو محاولات لتحجيم الدور المصري.
هذا التباين يعكس – وفق خبراء – إدراكًا مزدوجًا لدى الإسرائيليين: احترامًا لمكانة مصر الاستراتيجية، وخشية من قدرتها على التأثير في موازين القوى.
فؤاد: انقسام واضح في الإعلام العبري
يقول الدكتور أحمد فؤاد أنور، الخبير في الشأن الإسرائيلي، إن الإعلام العبري ينقسم داخليًا إلى عدة تصنيفات، لكل منها خطابه وأهدافه. فالصحف الدينية التابعة لجامعات دينية من الداخل، بعضها مناصر للاستيطان وبعضها مناصر للصهيونية، لكنها تمثل جبهة ضد مصر. هذه الصحف تُصوِّر المواجهة الحالية مع القاهرة على أنها امتداد للمواجهة مع فرعون، حيث يتم استدعاء ما ناله “بنو إسرائيل” من عذاب في مصر قديمًا ومحاولة تكراره الآن.
أما الصحف المستقلة، فبعضها منحاز بشكل كامل لنتنياهو مثل صحيفة إسرائيل هايوم، وهي صحيفة مجانية تعتمد على الإعلانات ظاهريًا، لكن في الجوهر تُموَّل من أصدقاء نتنياهو من الأثرياء. هذا الخط يختلف عن الخط السابق؛ ففي عهد الرئيس مبارك كان هناك تعاون اقتصادي وتنسيق أمني، أما حاليًا فالخط المشترك بين الصحف الإسرائيلية أن مصر ليست وسيطًا، بل راعٍ للجانب الفلسطيني وطرف مباشر في الأزمة، وهي أزمة – كما يوضح أنور – بدأها نتنياهو عندما تولى “حكومة الخراب” في ديسمبر 2022، وكرر التعدي على الحرم القدسي والممتلكات الفلسطينية، وهو ما حذرت مصر منه مرارًا.
ويشير “فؤاد” إلى أن الخطاب الإعلامي الحالي يتسم بالتحريض ضد مصر وتوجيه اتهامات مباشرة لها. فهناك مزاعم بأنها تتحكم في الحدود وتسمح بعمليات تهريب، وأنها مسؤولة عن الأنفاق التي تم تدميرها منذ عام 2016، حيث تزعم إسرائيل أنها وجدت فتحات لها في الجانب الطيني، وأن هذه الأنفاق هي التي دخل منها السلاح إلى الناس والمقاومة. ويؤكد أن هذه الاتهامات هدفها الأساسي الضغط على مصر لدفعها للضغط بدورها على المقاومة للقبول بالقيود الاستسلامية للجانب الإسرائيلي، وهو ما يتعارض تمامًا مع مبادئ مصر وثوابتها.
وفي المقابل، أوضح “فؤاد” أن هناك شريحة أقل حجمًا في الإعلام الإسرائيلي، متمثلة في الصحف ذات التوجه اليساري أو الليبرالي مثل هآرتس، هذه الصحف تبرز بعض الأصوات التي تحذر من جموح نتنياهو وسعيه لضم أراضٍ جديدة، في وقت لا يمتلك فيه جيش الاحتلال الجهوزية التي تسمح له باستفزاز مصر، الدولة التي تمتلك قوة كبيرة واستطاعت تجاوز أزمتها الاقتصادية حتى بعد تضرر إيرادات قناة السويس.
وأضاف أن الجانب المصري صمد أمام الضغوط الأمريكية والاتهامات الإسرائيلية السابقة والحالية، ولم يسمح باستفزازه.
وتبرز في هذا السياق تحذيرات أميرة أورون، السفيرة السابقة في مصر والخبيرة في الشؤون العربية، التي حذرت من أن نتنياهو يقود إسرائيل إلى “الغرق”، مشيرة إلى أن الخسائر لن تتوقف عند حدود 1967، بل ستمتد لتشمل عزلة دولية وانهيار المشروع الإسرائيلي نفسه.
أما على صعيد التليفزيون، فيوضح “فؤاد” أن القناة 14 تقف بالكامل مع نتنياهو بشكل غير مهني ومثير للسخرية. في المقابل، بقية المحطات التلفزيونية تقف ضده بدرجات متفاوتة، وتركز على فساده وفشله، وهو ما دفع نتنياهو إلى مقاطعتها بشكل كامل وحصر ظهوره في القناة 14 التي تبث خطابه كما يريد.
نورهان: الخطاب الإعلامي يكشف خوفًا من الدور المصري
وترى الدكتورة نورهان الشيخ، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن تناول الإعلام الإسرائيلي لمصر لا يمكن فصله عن إدراك عميق لدى النخبة الإسرائيلية بحجم وثقل القاهرة الإقليمي، فمصر – على حد وصفها – لم تعد مجرد “وسيط” كما يردد الخطاب الرسمي، بل طرف أساسي يملك القدرة على تعطيل أو تمرير أي تسوية في المنطقة.
وتوضح أن هذا الإدراك هو ما يفسر حدة الخطاب الإعلامي الحالي: من جهة اتهامات بالضلوع في تهريب السلاح عبر الحدود أو غض الطرف عن نشاط المقاومة، ومن جهة أخرى حملات تشويه تهدف إلى تصوير مصر كطرف منحاز بالكامل للفلسطينيين.
وتضيف: “الإعلام العبري يستخدم خطاب التحريض على مصر كأداة ضغط مزدوجة: الأولى موجهة للداخل الإسرائيلي لتبرير فشل نتنياهو في إدارة الملف الفلسطيني، والثانية موجهة للخارج لتقليص الدور المصري في أي جهود للوساطة”.
وترى الشيخ أن الخطورة لا تكمن فقط في الاتهامات، بل في محاولات تجريد مصر من صورتها كوسيط تقليدي في النزاعات. فحين يتم تقديم القاهرة كـ”راعٍ للفلسطينيين”، يصبح من السهل على نتنياهو تبرير رفضه لمبادرات التهدئة أو تحميل مصر مسؤولية استمرار المواجهة.
كما تشير إلى أن الأصوات المعارضة داخل إسرائيل رغم أهميتها تبقى محدودة التأثير، لكنها تعكس في الوقت نفسه إدراكًا بأن استفزاز مصر قد يكلف تل أبيب كثيرًا.
وتقول: “الخطاب التحذيري في بعض الصحف مثل هآرتس ليس مجرد تحليل، بل هو انعكاس لحسابات أمنية عميقة بأن مصر قادرة على قلب موازين القوى إن قررت تغيير قواعد اللعبة”.
وتختم الشيخ بالتأكيد أن صورة مصر في الإعلام العبري – مهما تعددت أشكالها بين التحريض أو التحذير – تكشف عن حقيقة واحدة: أن القاهرة ليست دولة يمكن تجاوزها أو تحييدها، وأن إسرائيل تدرك أن أي تسوية مستقبلية لا يمكن أن تتم دون المرور عبر البوابة المصرية.