عندما خرجت النساء السودانيات في مقدمة الصفوف خلال ثورة ديسمبر 2018، لم يكن حضورهن مجرد مشاركة رمزية. بل كانت صرختهن من أجل الحرية إعلانًا أن هذا الوطن لا يمكن أن ينهض دون أن تُكسر القيود التي كبّلت النساء لعقود طويلة.
قُدن الهتافات، شاركن في العمل السياسي والتنظيم الثوري، وتصدرن المشهد في مواجهة نظام عسكري–إسلامي خنق السودان وكتم أصوات النساء على وجه الخصوص لعشرات السنين.
وجودهن في الشارع كان تحديًا مباشرًا للسلطة التي حاولت طويلًا إخضاع أجسادهن وأصواتهن، لكن الثورة أثبتت أن النساء قادرات على صنع التاريخ.
الحرب التي ابتلعت الأجساد غير أن تلك السلطوية، وهي تتهاوى، أشعلت حربًا جديدة ابتلعت السودان منذ منتصف أبريل 2023. حرب لم تكتف بقتل الرجال وتشريد الملايين، بل امتدت إلى أجساد النساء. الجسد نفسه الذي كان في مقدمة الصفوف لافتة للحرية، صار ساحة حرب.
لم يعد “الجنس” جريمة فردية أو فعلًا قسريًا معزولًا، بل تحوّل إلى سلاح ممنهج لإذلال النساء وتفكيك المجتمعات. في هذه الحرب، صار العنف الجنسي أداة سياسية وعسكرية، لا تقل فتكًا عن الرصاص والمدافع.
العنف الجنسي كسلاح حرب: الصورة الدولية
ما نشرته المنظمات الدولية خلال العامين الماضيين يرسم ملامح واضحة لمأساة متفاقمة. بعثة الأمم المتحدة وثّقت اغتصابات جماعية واسترقاقًا جنسيًا ضد النساء والفتيات في مناطق النزاع.
منظمة العفو الدولية سجّلت 36 حالة اغتصاب لفتيات لم تتجاوز بعضهن الخامسة عشرة في أربع ولايات سودانية. منظمة هيومن رايتس ووتش نشرت تقريرًا بعنوان “الخرطوم لم تعد آمنة للنساء”، كشفت فيه أن قوات الدعم السريع ارتكبت اغتصابات جماعية واحتجزت نساء كعبيد جنسيين.
أما اليونيسف فأشارت إلى أن عام 2024 وحده شهد ولادة 77 طفلًا في مراكز الرعاية نتيجة حمل ناتج عن الاغتصاب، مقارنة بـ64 طفلًا في 2023 و29 فقط في 2022.
هذه الشهادات تؤكد أن العنف الجنسي في السودان ليس أحداثًا معزولة أو جرائم فردية، بل سياسة حرب ممنهجة تُستخدم ضد النساء كسلاح لإرهاب المجتمعات وتفكيكها من الداخل.
الرصد المحلي: أرقام تتكلم
هذه الصورة الدولية تتقاطع مع ما رصدناه محليًا في “مدد”. فمن خلال متابعة الأخبار والتقارير الإعلامية منذ اندلاع الحرب، استطعنا توثيق 64 واقعة اغتصاب، بينها 46 داخل السودان و8 داخل مصر. وهذا الرصد الإعلامي لا يشمل عشرات الحالات التي أبلغت بها ناجيات بشكل مباشر مؤسسات ومبادرات عاملة في مصر ودوليًا.
ومع ذلك، فإن هذه الأرقام – برغم قسوتها – لا تمثل سوى جزء يسير من الحقيقة. خبرتنا خلال العامين الماضيين أثبتت أن الغالبية العظمى من النساء الناجيات لا يبلّغن ولا يتحدثن، بفعل الخوف، أو الوصمة الاجتماعية، أو غياب الأمان القانوني. لذا فإن الأرقام المعلنة ليست إلا قمة جبل الجليد الذي يخفي تحته مئات وربما آلاف القصص التي لم يُكشف عنها.
مصر: الجوار الصامت
ورغم أن مصر تحولت منذ بداية الحرب إلى أكبر دولة مستقبلة للفارين من السودان، إلا أن أخبار الحرب في السودان غائبة تمامًا عن إعلامنا وخاصة قصص هؤلاء النساء تكاد تكون غائبة عن النقاش العام.
وفق بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، هناك ما يقارب 690 ألف لاجئ وطالب لجوء سوداني مسجّلين رسميًافي مصر، بينما تقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من 1.2 مليون سوداني عبروا الحدود منذ أبريل 2023. بعضهم حصل على صفة لاجئ، آخرون ما زالوا في وضع “طالب لجوء”، وهناك من يعيش كمقيم عادي للعمل أو التعليم وخلافه.
في الأيام الأولى للأزمة، دخلت نساء وأطفال إلى مصر دون أوراق، كثيرات منهن ناجيات من اغتصاب وانتهاكات جنسية بشعة. لكن رغم هذا الحضور الكبير، لم نجد اهتمامًا إعلاميًا أو خطابًا حكوميًا يسلط الضوء على المأساة. يأتين حاملات أجنة دون رعاية صحية كافية، دون دعم نفسي، ودون حماية اجتماعية، وكأن الأمر طبيعي: أن تتمزق النساء في الحرب بالاغتصاب، ثم يصلن إلى مصر ليواجهن الصمت نفسه.
لا صمت ولا كفاية شرّ
لكن المأساة لا تنتهي عند حدود السودان. فالنساء السودانيات في مصر يواجهن انتهاكات جديدة: تحرش، ابتزاز، استغلال جنسي، إلى جانب التنمر والعنصرية اليومية. يواجهن حربًا مضاعفة: ذاكرة الاغتصاب في السودان، وواقعًا يوميًا بلا حماية كافية في مصر.
هيومن رايتس ووتش وثّقت أن السلطات المصرية تتقاعس عن حماية اللاجئات وطالبات اللجوء من العنف الجنسي، بما في ذلك عدم التحقيق الجاد في حالات الاغتصاب والاعتداء. هذا التقاعس يجعل من الشكوى نفسها عبئًا إضافيًا، ويدفع الناجيات إلى الصمت من جديد.
أما على مستوى الأرقام داخل مصر، فالصورة أكثر قتامة. تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 15.1٪ من النساء المصريات (بين 15 و49 عامًا)تعرّضن لعنف جسدي أو جنسي من شريك حميم خلال عام واحد. دراسات أخرى تؤكد أن أكثر من 99٪ من النساء المصريات تعرّضن لشكل من أشكال التحرش في حياتهن. تقرير مرصد “إدراك” وثّق 1195 جريمة عنف ضد النساء والفتيات في عام واحد فقط.
حين نضع هذه الأرقام بجوار واقع اللاجئات السودانيات، يصبح واضحًا أن العنف لا يتوقف عند حدود الخرطوم ودارفور، بل يستمر في القاهرة والإسكندرية، حيث يُفترض أن يجدن ملاذًا آمنًا. ونجد للأسف بعض الأصوات لا تتفهم مدى الرعب الذي فر منه السودانيين والسودانيات ويطالبهم بالعودة لبلادهم! وكأن الحرب قد انتهت أو كأنهم لم يضطررن اضطرارا للهروب من بيوتهم وأرضهم. ويعود جزء كبير من خطاب الكراهية هذا للجهل بالحرب السودانية وأحداثها وما يحدث هناك بالفعل على الأرض للنساء والاطفال والرجال.
العدالة تبدأ من الاعتراف
الوجه المسكوت عنه في حرب السودان ليس فقط القصف والقتل والتشريد، بل الاستهداف الممنهج لأجساد النساء. وما يحدث في مصر من تجاهل وصمت يضيف طبقة جديدة من الظلم. العدالة تبدأ من الاعتراف، من كسر حاجز الصمت، ومن التعامل مع هذه الجرائم باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
السؤال الذي يجب أن نطرحه نحن المصريين أيضًا هو: كيف نعيش بجوار هذه المأساة وكأنها أمر عابر؟ كيف نبرر صمتنا، ونحن نعلم أن آلاف النساء حولنا يحملن أجسادًا مثقلة بجروح الحرب والعنف، ولا يجدن لا حماية ولا صوتًا؟
إن كسر الصمت ليس رفاهية. إذا كنا صامتين اليوم، فنحن شركاء في الجريمة.