في فبراير 2024، استقبل مستشفى العريش طالبة جامعية بكلية الطب البيطري بجامعة العريش تسمى “نيرة” عمرها لم يتجاوز 19 عامًا؛ فاقدة الوعي بعد تناول مادة سامة، ولم تفلح محاولات الأطباء في إنقاذ حياتها.
رحلت “نيرة” تاركة خلفها صدمة وغضبًا واسعًا، ورغم تسجيل الوفاة في البداية كـ”حالة انتحار”، إلا أن الرأي العام دفع النيابة لإعادة التحقيق مع وجود شبهات جنائية، وتم استدعاء أصدقائها للبحث عن الأسباب.
باشرت النيابة التحقيقات وكانت النتائج صادمة حيث وقعت ضحية جريمة ابتزازا إلكتروني من صديقتها الجامعية، ورضخت “نيرة” للضغط وتحولت حياتها من طالبة ملتزمة ذات أحلام كبيرة إلى ضحية خوف وقلق دائمين، تترقب رسائل المبتزين في أي لحظة حتى قررت الانتحار.
%90 من السيدات يتعرضن للابتزاز
قضية نيرة ليست الوحيدة، إذ تشير مبادرة “اتكلمي Speak Up” إلى أن 90% من ضحايا الابتزاز الإلكتروني من النساء، مقابل 10% فقط من الرجال.
وبحسب المبادرة، جاءت دوافع المبتزين متباينة بين الحصول على مقابل جنسي بنسبة 47%، ودوافع مادية بنسبة 19%، بينما شكّلت دوافع أخرى مثل محاولة استرجاع علاقة أو إنهائها أو إجبار الضحية على التنازل عن منصب ما نسبته 34%.
ورغم خطورة الظاهرة، لم تتجاوز نسبة من يقدمن بلاغات رسمية 10% فقط، بينما فضّل 90% منهن الصمت خوفًا من الفضيحة أو الوصمة المجتمعية، وهو ما تؤكده دراسات صادرة عن مجلس النواب بشأن ضعف الإبلاغ عن جرائم العنف الإلكتروني.
ضغوط وابتزاز مستمر
تفاصيل قصة “نيرة” بدأت خلال إقامتها في سكن الطالبات خلال فترة دراستها، ولم تتوقع أن يتحوّل هذا المكان إلى بداية كابوسها، فبحسب ما روت صديقاتها، فإن زميلتها “شروق” صورتها خلسة بطريقة غير لائقة بعد خلاف نشب بينهما، ولم تكتف بذلك، بل أرسلت الصور إلى زميل آخر يدعى “طه”، ليبدآ معًا ابتزاز “نيرة” بتهديدها بنشر الصور ما لم تعتذر علنًا أمام زملائها.
ورغم موافقتها على تقديم اعتذار علني على “جروب الدفعة”، لكن الابتزاز لم يتوقف، بل استمر التهديد والملاحقة.
دعم الأسر كلمة السر
توضح المحامية دينا المقدم، أن مواجهة هذه الجرائم تستلزم تحرير محضر رسمي في أقرب قسم شرطة أو مباحث الإنترنت، مع تقديم الأدلة من رسائل وصور وتسجيلات وروابط الحسابات المستخدمة في الابتزاز، ليتم تحويل البلاغ إلى النيابة العامة ثم إلى إدارة مكافحة جرائم الحاسبات بوزارة الداخلية، وتبدأ بعدها مرحلة التحقيق والإحالة، وفي حال ثبوت الجريمة يُحال الجاني للمحاكمة الاقتصادية أو الجنائية.
تضيف “دينا” لـ “القصة”: يعاقب قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 المبتز بالحبس مدة لا تقل عن عامين وغرامة من 50 إلى 100 ألف جنيه، وتصل العقوبة إلى 5 سنوات إذا ارتبط الابتزاز بطلب مادي أو جنسي.
وتشدد على ضرورة دعم الأسرة للفتاة في مواجهة الجريمة لا معاقبتها أو الضغط عليها.
نظرة المجتمع وخوف الأسر
من جانبها، تقول الدكتورة بسمة سليم، أستاذة علم النفس، إن أبرز ما يمنع الضحايا من الإبلاغ هو خوفهن من نظرة المجتمع، إضافة إلى تردد بعض الأسر في الدفاع عن بناتهن خشية كلام الناس، وهو ما يمنح المبتز مساحة أكبر للتمادي.
وأضافت “سليم” أن التعامل الحاسم منذ البداية من الضحية وأسرتها يمكن أن يوقف الجريمة قبل تفاقمها.
ورغم الاستسلام الذي تلجأ إليه بعض الضحايا، فإن هناك نماذج اختارت المواجهة.
إحداهن، طالبة بالمرحلة الثانوية، رفضت الرضوخ لابتزاز أحد معارفها وتقدمت ببلاغ رسمي، ليُلقى القبض على الجاني ويحكم عليه بغرامة 100 ألف جنيه، بعد رفض أسرتها كل محاولات الصلح.
غياب الوعي الرقمي يفتح الباب لجرائم اختراق الأجهزة الشخصية والابتزاز
يقول أحمد السبكي، عضو مجلس إدارة غرفة صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تشهد مصر كما في كثير من الدول، تزايداً في حوادث اختراق الهواتف والحواسب والابتزاز الإلكتروني، تعود جذورها إلى ضعف الوعي الرقمي لدى شريحة واسعة من المستخدمين الذين يقللون من خطورة ما يحملونه على أجهزتهم من صور وبيانات خاصة.
ويشير أحمد السبكي، إلى أن توسع استخدام شبكات التواصل وظهور ميزات مشاركة الصور والفيديوهات، تحوّل الأرشيف الشخصي إلى هدف مغرٍ للقراصنة الذين يستغلون قنوات الاتصال المباشرة وروابط أو ملفات مُلوَّثة لزرع برامج خبيثة في الأجهزة.
ويوضح “السبكي” أنه تتم عمليات الاحتيال عادة عبر اختيار الضحية المناسبة ثم إرسال رسالة أو رابط يبدو ذا صلة باهتمام المتلقي؛ وبمجرد فتح الرابط أو الملف تنتشر البرمجيات الخبيثة وتمنح المخترق صلاحيات للوصول إلى الحسابات وملفات الجهاز، أو لقفل الحساب وابتزاز صاحبه مقابل فدية، مضيفا أن هذه الأساليب تتراوح بين التصيد الاحتيالي، وبرامج التجسس واختراق كلمات المرور أو استغلال ثغرات التطبيقات.
رفع الوعي الرقمي.. فريضة غائبة
ويؤكد “السبكي” أنه للحد من هذه الظاهرة، يظل رفع الوعي الرقمي العامل الأهم من حيث عمل برامج توعوية موجهة للطلاب في مراحل التعليم المختلفة، وحملات إعلامية منتظمة ووضع مبادئ تعليمية في الأعمال الدرامية والإعلانات، بالإضافة إلى نشر إرشادات عملية مثل تحديث الأنظمة بانتظام، عدم فتح روابط أو ملفات مجهولة، تفعيل المصادقة الثنائية، والحذر من مشاركة المحتوى الحساس ومطلوب تضافر جهود المؤسسات الحكومية، المدارس، وقطاع التقنية لوضع سياسات حماية وتدريب مستمرين.
مأساة نيرة صلاح تكشف ثغرات مجتمعية وقانونية ونفسية، وتضع ابتزاز الفتيات في صدارة القضايا التي تحتاج تحركًا عاجلًا من الأسرة والمجتمع والدولة لوقف نزيف الضحايا.