55 عاما على رحيل الزعيم المصري الكبير، جمال عبد الناصر، ذلك الرجل الذي قاد حركات التحرر في ربوع الوطن العربي والقارة الإفريقية، ناهض الاستعمار ورفض انتهاكاته لسيادة الأوطان واستقرارها، وهو الذي قال: «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد، وآن للاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل».
وبعد نصف قرن ويزيد، هل ما زالت تجربة عبد الناصر حاضرة، هل هناك خشية من عودتها أو تكرارها مجددا؟ في هذا التقرير يستعرض معكم موقع “القصة” كل هذه التساؤلات.
لهذه الأسباب يخشى الغرب تكرار تجربة عبد الناصر؟
أكد المهندس حسام رضا، خبير الإرشاد الزراعي، أن قانون الإصلاح الزراعي الذي أطلقه الرئيس جمال عبد الناصر كان يستهدف هدفين؛ الأول سريع وهو تمليك مجموعة من صغار الفلاحين الذين أنهكتهم الضرائب والاحتلال وسرقة أراضيهم منذ عهد محمد علي، مرورًا بالملك فاروق. فقد كان الهدف أن تُنشأ طبقة تملك وتحكم، لكن الإصلاح الزراعي جاء ليغير هذا الوضع القائم الذي كان يخدم الملك ويخدم الاحتلال، فتم هدم هذه المنظومة عن طريق سحب ما تملكه تلك الطبقة من ثروة دون وجه حق. وأغلب هؤلاء لم يكونوا مصريين، بل من أسرة محمد علي التي بدأت الاستيلاء على الأراضي منذ عام 1811، إضافة إلى مجموعة من الألبان والشركس، ثم امتد الوضع مع الاحتلال الذي منح الأراضي لمن تعاون معه وعلى رأسهم محمد سلطان باشا وبعض القبائل البدوية الذين لم يكن لهم حق في امتلاك الأرض، لكن الاحتلال ملكهم هذه الأراضي، وفي الوقت ذاته قامت شركات أجنبية وبنوك أجنبية باستصلاح الأراضي وتملكها، بينما أغرقت صغار ومتوسطي الملاك في القروض والفوائد المرتفعة، ما أدى إلى إفلاسهم وخروجهم من طبقة الملاك.
رضا: عبد الناصر أنصف الفلاحين وواجه الاستعمار بتأميم القناة.
وأوضح أن الإصلاح الزراعي لم يقتصر فقط على تمليك الفلاحين الصغار أراضي تتراوح ما بين فدانين إلى خمسة أفدنة وفقًا لخصوبة التربة، بل شمل أيضًا عمليات استصلاح أراضٍ جديدة في مناطق مثل مديرية التحرير، أبيس بالإسكندرية، والوادي الجديد.
وعن تأميم قناة السويس، أشار رضا إلى أن القرار كانت له دلالات سياسية كبرى، فقد استعادت مصر خطًا تجاريًا دوليًا يرتبط بموقعها الجغرافي منذ العصور الفرعونية كحلقة وصل بين الشرق والغرب.
وأضاف أن القوى الاستعمارية – بريطانيا وفرنسا وإيطاليا – كانت تخطط لتحويل الشركة المصرية لقناة السويس إلى شركة دولية بغطاء “دوس”، وهو ما كشفه الدكتور مصطفى الحفناوي عندما أخبره أحد قناصل هذه الدول عام 1954، لذلك انتظر عبد الناصر حتى خروج آخر جندي بريطاني في 13 يونيو 1956، ليعلن بعدها قرار التأميم، وكانت النتيجة أن مصر لم تستعد القناة فقط، بل نجحت في دحر العدوان الثلاثي، واستعادت الشركات الأجنبية والبنوك والمصانع، وهو ما أسس لفكرة القطاع العام كركيزة اقتصادية مصرية.
أما عن الوحدة بين مصر وسوريا، فأكد أن فشلها جاء نتيجة عدة أسباب، أبرزها المؤامرات الدولية والإقليمية. فقد كان من الصعب على جهاز المخابرات المصري الوليد أن يواجه تحالفات إسرائيلية–أمريكية–بريطانية–فرنسية، إضافة إلى ضغوط سعودية.
وأوضح أن المخطط الغربي والتركي كان يستهدف تفكيك سوريا نظرًا لموقعها ودورها العربي، فضلًا عن أطماع تركيا التاريخية في أراضيها كما كان الغرب يرى أن توحيد سوريا مع مصر يهدد مصالحه، خاصة في ما يتعلق بخطوط الغاز والطاقة، لذلك ساهمت الأموال السعودية والمؤامرات التركية والغربية في فشل التجربة الوحدوية، رغم شعبيتها.
وفي حديثه عن نكسة 1967، نقل رضا ما ذكره الفريق محمد فوزي في دراسته لأسباب النكسة، حيث أشار إلى وقوع القوات المسلحة في أدوار مدنية ليست من اختصاصها، ما أثر على جاهزيتها العسكرية. ومع ذلك، قاد عبد الناصر عملية إعادة بناء الجيش، مدعومًا بمجانية التعليم التي أفرزت جيلًا متعلمًا قادرًا على استيعاب الأسلحة الحديثة، كما ساعد الخط العروبي لعبد الناصر على خلق تلاحم عربي، ظهر في دعم الجزائر واليمن وليبيا والسودان لمصر، وبرغم المؤامرة التي قادها الرئيس الأمريكي جونسون بدعم من الملك فيصل، فإن الموقف العربي والسوفيتي أسهم في صمود مصر خلال حرب الاستنزاف، وهو ما مهد الطريق لنصر أكتوبر لاحقًا.
وشدد على أنه لا يمكن إنكار إنجازات عبد الناصر الكبرى: من الجلاء والإصلاح الزراعي، إلى بناء المدارس بوتيرة سريعة، وتحقيق موارد متزايدة من قناة السويس التي ارتفعت عوائدها من 3 ملايين جنيه عام 1956 إلى 38 مليونًا عام 1985. هذا فضلًا عن السد العالي الذي حمى مصر من العطش والفيضان، واستصلاح نحو 195 ألف فدان جديدة حتى وفاته، وتحويل 1.2 مليون فدان من زراعة واحدة إلى زراعتين أو أكثر سنويًا.
وأضاف أن عبد الناصر لعب دورًا محوريًا في تصدير المعلم المصري إلى الدول العربية، ما ساعد في بناء أجيال كاملة في ليبيا والجزائر واليمن والكويت وعمان والسعودية وقطر. كما أن المصانع الكبرى مثل الحديد والصلب، ومجمع الألومنيوم، ونصر للسيارات، تظل شاهدًا على دوره في بناء قاعدة صناعية وطنية.
واختتم رضا تصريحاته بالتأكيد على أن كل الدول العظمى تعرضت لهزائم، لكن الفارق يكمن في إرادة الشعوب وعبد الناصر – رغم الأخطاء – ظل رمزًا للإرادة الوطنية التي استطاعت أن تنهض بعد النكسة، وتصمد حتى تحقق الانتصار في أكتوبر 1973، معتبرًا أن ما فعله عبد الناصر هو الذي ساعد مصر على الصمود في وجه التحديات الإقليمية الراهنة.
جبر: إرث عبد الناصر.. عدالة اجتماعية ومشروع تحرري هز عروش الاستعمار
وقال حامد جبر، المحلل السياسي والقيادي الناصري، إننا نتذكر دائمًا رأي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق فيما يتطلعون إليه ويخططون له في المنطقة، حين قال: “لا نريد جمال عبد الناصر آخر في المنطقة”، وأوضح أن هذا الرأي سارت عليه وطبقته كل الأنظمة التي جاءت بعد عبد الناصر، حيث قام الرئيس السادات في مايو 1971 باعتقال “حُراس الثورة” فيما سمي بـ”ثورة التصحيح”، وأعقبه بقانون الانفتاح الاقتصادي الذي فتح الباب بمصرعيه لدخول رأس المال الأجنبي والعربي، لتبدأ معه عملية بيع ممتلكات الشعب دون رقيب أو حسيب.
وأكد أن هذا يُعد مدخلًا طبيعيًا للحديث عن إرث عبد الناصر، الذي لم يترك إرثًا شخصيًا لأنه لم يكن يملك شيئًا يخصه، بل ترك كل ما قام به للمالك الحقيقي وهو الشعب، الذي رد إليه اعتباره واعتبره قائدًا ومعلمًا. حتى عام 1974 ظل الشعب هو المستفيد من إرث عبد الناصر: صحة، تعليم، عمل، وعدالة اجتماعية حقيقية لم تميز مواطنًا عن آخر.
وأشار إلى أنه يكفي النظر إلى الريف المصري لرصد حجم التغيير الذي شهده منذ نهاية الخمسينيات؛ ففي قريته مثلًا لم يكن يوجد سوى رجل واحد فقط نال حظه من التعليم الجامعي، بينما أصبحت القرية الآن تضم آلاف الحاصلين على الشهادات العليا ويشغلون مناصب رفيعة، هذا هو إرث جمال عبد الناصر على المستوى الاجتماعي.
وأوضح جبر أنه لا يمكن فصل البعد الاجتماعي عن السياسي لارتباطهما معًا، وأن الحكم على الإرث السياسي لا يكون بالنجاح أو الفشل إلا وفق الاتفاق على أن آليات العمل السياسي مختلفة منذ الأزل. فاليمين له مفهومه وكذلك اليسار بمدارسه المختلفة، وقد هاجم كلاهما تجربة عبد الناصر بمفهومه دون أن يستوعبا الإطار العام لمشروعه، الذي كان يهدف إلى تشكيل تيار واسع من القوى المنتجة: “عمال وفلاحين ورأسمالية وطنية تعمل في ظل خطة تنمية يقودها القطاع العام”.
وأضاف أن هذا المشروع لم يُحارب من الداخل فقط بل من الخارج أيضًا، سواء بحصار اقتصادي أو بحروب مباشرة، مثل أزمة تمويل السد العالي، وحربي 1956 و1967، وكان الهدف إسقاط التجربة وهزيمتها لخطورتها على المشاريع المُعدة للمنطقة.
واستشهد جبر بـ”الصرخة القوية من ميدان في الإسكندرية”، مؤكدًا أن الدول الاستعمارية كانت واضحة في مشاريعها للمنطقة قبل تأميم قناة السويس. وتساءل: لماذا منحت بريطانيا فلسطين للصهاينة؟ مشيرًا إلى أنها كانت تُسمى “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، وزرعت الكيان الصهيوني للحفاظ على ما تعتبره ممتلكاتها، ومن هنا وجدت بريطانيا في قرار التأميم ذريعة للعدوان على مصر والانتقام من قائد الثورة الذي حطم حلمها وساعد حركات التحرر العربي والأفريقي على الانعتاق من الاستعمار.
وأكد أن تأميم القناة جعل هدف الدولة المصرية واضحًا: الاستمرار في بناء دولة عصرية تعتمد على مواردها الذاتية لمواجهة الحصار الغربي وتمويل المشاريع التنموية، وفي المقابل استمر التآمر الغربي على مصر ولا يزال حتى هذه اللحظة.
وأشار إلى أن تراجع التوجه الوحدوي لم يكن بسبب فشل مشروع الوحدة مع سوريا بحد ذاته، بل لأن الغرب كان يخشى من استمرار محاولات توحيد الأرض والشعب، وساعده في ذلك الممالك والسلاطين، بالإضافة إلى استمرار الكيان الصهيوني في اغتصاب الأرض العربية في فلسطين، حيث إن بقاءه يعني استمرار فصل المغرب العربي عن مشرقه، وهو الهدف الأساسي من إنشائه.
واستعاد جبر ذكريات التاسع والعاشر من يونيو 1967، قائلاً: “كنت طفلًا أقيم مع أسرتي بالسويس، وشاهدت وشاركت مع آلاف المواطنين رافضين التنحي ومطالبين بالقتال حتى النصر، وقد حدث ذلك بالفعل بفضل الله وإرادة الشعب في أكتوبر 1973”.
وأوضح أن هذا النصر لم يكن ليتحقق إلا بجهد وقتال بدأ منذ محاولة العدو احتلال مدينة بورفؤاد عام 1967، مرورًا بحرب الاستنزاف، وصولًا إلى أكتوبر المجيد، وكان النصر كفيلًا بإعادة ثقة الشعب بجيشه ودولته.
واعتبر أن جمال عبد الناصر واحد من أبطال هذه الأمة، أخلص لها ووعى أن قدرها أن تكون منارة يهتدي بها من حولها. وقد تحررت بلدان في الأقاليم العربية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا بفضل مشروعه التحرري التنموي الاستقلالي، نجح مشروعه بقدر عطائه وفهمه لدوره، ولم ينجح في بعض جوانبه بسبب التآمر الواضح عليه، ويكفي للدلالة على ذلك الرسالة التي بعثتها إحدى الممالك العربية إلى الرئيس الأمريكي لتحرضه على قتل عبد الناصر.
واختتم جبر قائلًا: “لم يُرفع الخطأ عن البشر، وعبد الناصر ليس نبيًا، يخطئ كغيره، لكن خطأه لمن يريد أن يخطئه، ولدينا ردود على كل هؤلاء”.