مع منتصف السبعينيات، شهدت مصر تحوّلاً اقتصاديًا واجتماعيًا جذريًا، إذ تحوّل الاقتصاد المصري من تجربة اشتراكية صارمة إلى اقتصاد مفتوح يتيح الفرص للقطاع الخاص ولرؤوس الأموال الجديدة، الدولة التي قضت نحو عشرين عامًا في التأميم والسيطرة المباشرة على جميع القطاعات الصناعية والتجارية، فتحت أبوابها أمام الاستثمار المحلي والأجنبي، ما أتاح لعائلات معينة أن تستغل هذه الفرصة لتأسيس إمبراطوريات اقتصادية قوية.
وفق تقديرات محلية فقد استطاعت أكثر من 42 أسرة بناء نفوذها المالي خلال 40 عامًا الماضية، سواء عبر استعادة شركات كانت مؤممة سابقًا أو عبر تأسيس شركات جديدة، أو عبر الحصول على وكالات أجنبية أسهمت في توسّعها الصناعي والتجاري.
قبل سياسة الانفتاح، كانت الدولة هي اللاعب الرئيس في الاقتصاد المصري، فكانت تدير مصانع الحديد والصلب والأسمنت والنسيج والطاقة، بينما كان القطاع الخاص محدودًا جدًا، وبوابته شبه مغلقة أمام أي توسع أو استثمار كبير.
ومع إعلان الرئيس أنور السادات سياسة “الانفتاح الاقتصادي” في عام 1974، بدأت المعادلة تتغير: سمحت الدولة بدخول رؤوس أموال خاصة، وفتحت الباب أمام التوكيلات الأجنبية، وشجعت شركات القطاع الخاص، ما أتاح لرجال الأعمال القدامى والجهات الجديدة فرصًا كانت شبه مستحيلة في العهد الاشتراكي.
هذا التحوّل لم يقتصر على الاقتصاد فقط، بل كان له أبعاد سياسية واجتماعية، إذ شكل بداية طبقة اقتصادية جديدة استطاعت بمرور الوقت أن تسيطر على قطاعات استراتيجية في السوق المصرية.
مع مرور السنوات وتحديدًا حتى التسعينيات، ظهرت موجة اقتصادية اتسمت بتوزيع مئات التوكيلات الأجنبية على شركات محلية، ودخول رؤوس أموال عربية وخليجية، وعودة عائلات كانت شركاتها مؤممة إلى السوق، فضلًا عن تأسيس شركات جديدة لعائلات كانت تعمل في التجارة التقليدية.
وتشير التحليلات الاقتصادية إلى أن عدد التوكيلات الأجنبية التي دخلت مصر خلال هذه الفترة تجاوز الألف وكالة، وذهبت نسبة كبيرة منها إلى شركات مملوكة لعائلات محددة، ما ساعد على نشوء ما يعرف اليوم بـ”طبقة الرأسمالية الجديدة”، وظهرت عائلات الأكثر نفوذًا بعد الانفتاح.
عائلة “منصور” إمبراطورية التوكيلات
عائلة منصور، التي بدأت نشاطها في تجارة القطن خلال الخمسينيات والستينيات، فقدت جزءًا كبيرًا من أعمالها بسبب التأميم، إلا أن الانفتاح الاقتصادي منحها فرصة للعودة بقوة إلى السوق.
في الثمانينيات والتسعينيات، حصلت العائلة على أهم التوكيلات، مثل توكيلات جنرال موتورز للسيارات، وكاتربيلر للمعدات الثقيلة، بالإضافة إلى استثمارات ضخمة في قطاع التجزئة والتمويل والتكنولوجيا. هذه الخطوة أسهمت في تحويل العائلة إلى واحدة من أكثر العائلات تأثيرًا في الاقتصاد المصري الحديث.
عائلة “ساويرس” من التأميم إلى الإمبراطوريات
بدأت عائلة ساويرس، نشاطها التجاري في مجال المقاولات خلال الخمسينات، إلا أن التأميم في الستينات أجبر الأب، أنسي ساويرس، على مغادرة مصر إلى ليبيا، حيث بدأ من جديد ووسع أعماله في المقاولات النفطية. ومع الانفتاح الاقتصادي، عاد إلى مصر وأسّس شركة “أوراسكوم” التي توسعت لتشمل مجالات الاتصالات، والمقاولات، والسياحة، والعقارات، والتكنولوجيا.
بينما أصبح أبناء ساويرس، نجيب، وناصف، وسميح، من بين أغنى رجال الأعمال في مصر والمنطقة، ويعدون نموذجًا بارزًا للطبقة الاقتصادية الجديدة التي استفادت من سياسات الانفتاح والخصخصة.
عائلات أخرى
من بين العائلات الأخرى البارزة، عائلة السويدي، التي تحولت من تجارة صغيرة للكابلات إلى امبراطورية صناعية كبرى، وعائلة الفايد التي امتد نفوذها بين القاهرة والإسكندرية ولندن، وعائلة عز التي استفادت بشكل كبير من خصخصة شركات الحديد والصلب في التسعينيات، لقد شكّلت هذه العائلات، مجتمعة، العمود الفقري للقطاع الخاص المصري، وغيّرت شكل الاقتصاد والمجتمع في مصر.
الشافعي: صعود هذه العائلات بفضل التوكيلات الاحتكارية
يشر الدكتور خالد الشافعي، الخبير الاقتصادي، إلى أن صعود هذه العائلات ليس مجرد حظ أو صدفة، بل نتيجة مباشرة لفهمهم مبكرًا لآليات الاقتصاد المفتوح، وللأهمية الكبرى للتوكيلات الأجنبية في بناء الثروة
وأوضح الخبير الاقتصادي، في تصريح خاص لـ موقع “القصة”، أن هذه العائلات أدركت هذه العائلات منذ البداية أن التوكيلات ليست مجرد صفقات تجارية، بل هي بوابة لاحتكار سوق كاملة، وتمكّن صاحبها من السيطرة على قطاع بأكمله، سواء في السيارات أو المعدات أو السلع، هذا ما منح بعض العائلات ميزة استراتيجية كبيرة على المنافسين الآخرين.
وأضاف الشافعي، أن التوكيلات لعبت الخصخصة التدريجية دورًا حاسمًا في تعزيز نفوذ هذه الطبقة الجديدة. فاستغلال الفرص الناتجة عن خصخصة شركات كانت مملوكة للدولة أتاح لهذه العائلات توسيع امبراطورياتها بسرعة، وتأسيس شركات متعددة القطاعات تهيمن على السوق المحلية.
واختتم الخبير الاقتصادي، أن تأسيس هذه الطبقة الاقتصادية الجديدة لم يؤثر فقط على الأسواق، بل شكل تحولًا اجتماعيًا حقيقيًا، إذ ارتبطت القوة الاقتصادية بالنفوذ السياسي، وظهرت فجوة واضحة بين الطبقة الغنية والطبقات الأخرى، مما أعاد تشكيل المجتمع المصري بصورة عميقة ومستمرة.”
تأثير صعود هذه العائلات على المجتمع
مع سيطرة هذه العائلات على قطاعات رئيسية، ظهرت طبقة ثرية جديدة، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وأصبح للقطاع الخاص وزن أكبر من القطاع العام في الاقتصاد.
كما ظهر نمط حياة جديد يختلف جذريًا عن تلك الفترة التي سبقت الانفتاح، وهو ما أتاح لرجال الأعمال الجدد القدرة على التأثير ليس فقط في الاقتصاد، بل أيضًا في السياسات العامة واتخاذ القرار.
تشكل هذه الأسر الـ 42، سواء التي استعادت أعمالها بعد التأميم، أو التي استفادت من الانفتاح، أو التي توسعت مع الخصخصة، العمود الفقري للقطاع الخاص المصري اليوم.
إن قصة مصر الاقتصادية بعد الانفتاح هي قصة عائلات بقدر ما هي قصة سياسات، وأعادت رسم خريطة الاقتصاد المصري بشكل مستمر، وما زال تأثير هذه التحولات ممتدًا حتى الوقت الحاضر.
