بارقة أمل جديدة تلوح في سماء القضية الفلسطينية بعد اعتراف عدد من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، فما بين مؤتمرات دولية تتحدث عن “حل الدولتين”، وتصريحات قادة العالم عن “السلام العادل”، ومواقف متحركة على رقعة الشطرنج الإقليمية، يظل الفلسطيني محاصرًا تحت الاحتلال، يتشبث بحلمه الكبير، ويتنقل بين مائدة السياسة وميادين المقاومة.
وسط هذا المشهد المليء بالتناقضات، تبرز شهادات شخصيات فلسطينية وعربية حملت على عاتقها الدفاع عن الحق الفلسطيني، لتكشف الفجوة بين الوعود الدولية والحقائق على الأرض، ومن بين هؤلاء، الدكتور أحمد القاروني، الباحث في القانون الدولي، والسفير الفلسطيني السابق في القاهرة بركات الفرا، كلاهما تحدث بلغة حادة، واضحة، لكنها مغموسة بوعي قانوني ودبلوماسي عميق، ليضع أمامنا صورة دقيقة لواقع الصراع وحدوده.
نحتاج لتفعيل القانون الدولي
بدأ الدكتور أحمد القاروني كلماته بتوصيف مباشر: “الوضع الحالي للقضية الفلسطينية لا يمكن النظر إليه إلا من زاوية القانون الدولي، لأن القانون هنا ليس مجرد إطار تنظيمي، بل هو شهادة على حق تاريخي غير قابل للتصرف”.
وشرح أن الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، رغم أهميتها الرمزية والسياسية، تظل غير مكتملة ما لم تتحول إلى التزام عملي على الأرض: “القانون الدولي يقر بوضوح أن الشعب الفلسطيني له الحق في تقرير مصيره، وأن أي احتلال لأرضه يعد جريمة دولية، لكن المشكلة تكمن في غياب الإرادة الدولية لتنفيذ هذا القانون”.
وأضاف القاروني: “الدبلوماسية وحدها لا تكفي، هناك ضرورة لتفعيل أدوات القانون الدولي، عبر المحاكم والآليات الأممية، وعدم الاكتفاء بخطابات الشجب أو الدعوة لمفاوضات لا تنتهي”.
ثم رفع صوته محذرًا من خطورة استمرار الوضع الراهن: “كل يوم يمر دون ضغط حقيقي على إسرائيل هو تكريس للاحتلال وتوسيع للمستوطنات، المجتمع الدولي، إن لم يتخذ خطوات عملية، سيكون شريكًا في الجريمة بالصمت والتواطؤ”.
الدبلوماسية وحدها لا تكفي
أما السفير الفلسطيني السابق في القاهرة بركات الفرا، فقد تحدث بلغة تحمل مرارة التجربة الدبلوماسية، ممزوجة بالأمل في قدرة الشعوب على قلب المعادلة.
وقال: “القضية الفلسطينية لم تعد مجرد ملف سياسي أو نزاع حدودي، بل أصبحت قضية إنسانية وأخلاقية تخص العالم كله، ما يحدث في غزة والضفة الغربية هو أكبر من نزاع، إنه امتحان حقيقي للقيم الدولية.”
وتابع الفرا: “لقد شاركت في عشرات اللقاءات والحوارات، ورأيت كيف يتغير خطاب بعض العواصم الأوروبية ببطء، نعم، الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة خطوة مهمة، لكنها أشبه بقطرات ماء في صحراء عطشى، نحن بحاجة إلى سيل جارف من الأفعال، لا مجرد بيانات.”
واستطرد بصراحة: “الدبلوماسية الفلسطينية وحدها مقيدة لا يمكنها أن تحقق المعجزات في ظل هيمنة الولايات المتحدة على القرار الأممي، ودعمها المطلق لإسرائيل لكن قوة الموقف العربي، إذا ما توحد، يمكن أن يشكل ضغطًا لا يُستهان به.”
ثم وجه نداءً لضمير العالم: “على أوروبا أن تتذكر أن الأزمة بدأت بوعد بلفور، وأن عليها واجبًا تاريخيًا لتصحيح خطأ عمره أكثر من مئة عام.”
عندما يلتقي القانون بالدبلوماسية
القاروني والفرا، رغم اختلاف خلفياتهما، يلتقيان عند نقطة محورية: أن الدبلوماسية وحدها عاجزة، والقانون وحده معطل، ما لم يرافقهما إرادة سياسية حقيقية تدفع نحو التغيير.
القاروني ركز على الآليات القانونية الدولية، مطالبًا بتفعيل أدوات المساءلة: “لماذا لم تقدم إسرائيل بعد للمحكمة الجنائية الدولية رغم ارتكابها جرائم حرب موثقة؟ لماذا لا يُستخدم الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لفرض قراراتها؟”
بينما رد الفرا بخبرة الدبلوماسي الذي يعرف دهاليز القرار الأممي: “لأن هناك من يضع الفيتو الأميركي سيفًا مسلطًا على رقاب الفلسطينيين، لكن ذلك لا يعني الاستسلام الشعوب حين تضغط، والحكومات حين تجد نفسها أمام رأي عام غاضب، تضطر لتغيير مواقفها”.
القصة الأكبر: الشعب في قلب المشهد
ما بين القانون والدبلوماسية، يظل الشعب الفلسطيني هو الطرف الأكثر حضورًا وغربة في آن واحد، القاروني يؤكد: “الشرعية الدولية لا قيمة لها إن لم تُترجم إلى حماية فعلية للفلسطيني على أرضه”.
بينما الفرا يضيف: “الفلسطيني هو الذي يدفع الثمن يوميًا من دمه وبيته ومستقبله، بينما يتداول القادة الخطب في المؤتمرات”.
نحو أي مستقبل؟
يرى القاروني أن الأفق ليس مسدودًا تمامًا: “هناك فرص، إذا ما تحرك العرب بشكل جماعي، واستثمروا الاعترافات الدولية الأخيرة لتشكيل جبهة ضغط قوية، يمكن أن تُحدث اختراقًا.”
ويكمل الفرا بنفس النغمة: “نعم، الطريق طويل، لكن الشعوب حين تتمسك بحقها، لا أحد يستطيع أن يمحوها من التاريخ. نحن شعب عرف معنى الصمود، ولن ينكسر مهما طال الزمن”.
الانقسام الفلسطيني ومقاومة الاحتلال
وحول الانقسام الفلسطيني، اعتبر الفرا أن حركة حماس تتحمل مسؤولية كبيرة فيه: “الانقسام الذي صنعته حماس كلف الفلسطينيين ثمنًا باهظًا في الأرواح والممتلكات، ومنح إسرائيل المبرر لارتكاب حرب دامية وتطهير عرقي، الأموال كانت تصل من قطر عبر تل أبيب لدعم هذا الانقسام”.
وأكد الفرا أن المقاومة حق مشروع ضد الاحتلال، لكنه شدد على أن تكون مبنية على إجماع فلسطيني وإعداد جيد: “نحن جزء من العالم، والمقاومة لا بد أن تكون عقلانية ومرتكزة على أسس صحيحة، ومع انتهاء الحرب سيزول الانقسام وسيبقى الممثل الشرعي الوحيد هو منظمة التحرير الفلسطينية”.
رؤية استراتيجية.. القوة مع الدبلوماسية
وفي سياق متصل، لفت د. القرماني إلى أن الدول العربية لا يجب أن تكتفي بالدعم السياسي فقط، بل يمكن أن تلعب أدوارًا عملية عبر الضغط في المحافل الدولية، واستخدام أوراق القوة الاقتصادية، ودعم الحراك القانوني ضد الاحتلال، واستشهد برؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي: “إسرائيل لا تردعها رادع، إلا إذا تسلحنا بالعلم والتكنولوجيا، ووحدتنا العربية”.
وقال القرماني، إن هذه رؤية استراتيجية دقيقة، حيث إن العلم والتكنولوجيا يمثلان أدوات بناء القوة الناعمة والصلبة، بينما الوحدة العربية هي الضمانة لأي موقف إقليمي فاعل، بعيدًا عن التجزئة والصراعات البينية.
بين القانون والدبلوماسية، بين الكلمات والدماء، تظل القضية الفلسطينية جرحًا مفتوحًا ووصمة عار على جبين العالم، لكن في أصوات القاروني والفرا ما يشبه الوصية: لا استسلام، ولا تنازل، ولا اعتراف بشرعية الاحتلال.
إنها قصة شعب لا يزال يكتب تاريخه بنفسه، رغم كل محاولات الطمس والتهميش، قصة تتجاوز حدود السياسة لتصبح صرخة إنسانية يسمعها كل من له ضمير.