شهدت الأسابيع الأخيرة موجة غير مسبوقة من المظاهرات العالمية المناهضة لإسرائيل، خرجت في عواصم عدة من لندن وباريس إلى واشنطن ومدريد، لتكشف عن الوجه الحقيقي للاحتلال بعد تصاعد الجرائم في غزة، لم يعد الغضب الدولي مجرد هتافات أو لافتات، بل امتد ليضرب الاقتصاد الإسرائيلي ويزعزع مكانتها السياسية، وسط تحول تدريجي في الرأي العام الغربي، ومطالبات بمراجعة سياسات الدعم التقليدي لتل أبيب.
في هذا السياق، استطلع موقع “القصة” آراء الخبراء حول التأثيرات المادية والسياسية التي تواجهها إسرائيل حاليًا، وجاءت تصريحاتهم لتؤكد أن ما يحدث ليس مجرد أزمة عابرة، بل بداية تحول عميق في ميزان الصورة والدعم الدولي.
خسائر إسرائيل
قالت الدكتورة سمر عادل، الخبيرة الاقتصادية المتخصصة في اقتصاديات إفريقيا، في تصريحات خاصة لـ “القصة”، إن المظاهرات والمقاطعات العالمية كان لها تأثير سلبي واضح على حجم الاستثمارات الإسرائيلية، لكنها أوضحت أن التأثير الأكبر لم يظهر في علاقة إسرائيل بالقارة الإفريقية بصورة كبيرة، مشيرة إلى أن هناك خلفية تاريخية لذلك.
وأضافت أن “إسرائيل استفادت في فترات سابقة من الفراغ الذي حدث داخل إفريقيا بعد تراجع الدور المصري، ما سمح لها ولعدد من القوى الأخرى بالدخول إلى القارة وتعميق علاقاتها التجارية والاستثمارية مع بعض دولها”.
وأوضحت “سمر” أن الانخفاض الأكبر حاليًا يتركز داخل إسرائيل نفسها، حيث تراجعت معدلات جذب الاستثمارات إلى الداخل بشكل ملحوظ، بينما لم تتراجع استثماراتها في إفريقيا بصورة ضخمة، وإن كانت قد شهدت تراجعًا نسبيًا، وأكدت أن الوضع الآن مختلف تمامًا عن السنوات الماضية، قائلة: “بالفعل الموقف اختلف خلال آخر سنتين أو ثلاث سنوات، وازدادت حدة الأزمة بين إسرائيل وبعض الدول الإفريقية، وعلى رأسها جنوب إفريقيا التي ترفض دومًا سياسات الاحتلال الإسرائيلي”.
وأضافت أن هذا التوتر السياسي خلق ضغطًا سياسيًا واقتصاديًا متزايدًا على إسرائيل، ما أدى إلى تراجع العلاقات التجارية والاستثمارية مع بعض الدول الإفريقية، موضحة أنه رغم عدم وجود نسبة دقيقة حتى الآن، إلا أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى تراجع أكبر في المستقبل القريب.
وأشارت إلى أن الخسائر المالية المباشرة لإسرائيل بلغت نحو 125 مليار شيكل (أي ما يزيد عن 34 مليار دولار)، وهي خسائر اقتصادية غير مسبوقة لإسرائيل منذ الحرب العالمية الثانية (منذ تأسيس الكيان)، ناتجة عن الإنفاق العسكري الضخم والتعويضات التي تقدمها الحكومة للمستوطنين المتضررين من العمليات العسكرية.
وأضافت أن هذا الوضع انعكس على معدل النمو الاقتصادي (GDP)، الذي تراجع إلى ما بين 1.5% و2% فقط، بينما بلغ عجز الميزانية نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي؛ وأكدت أن قطاعات السياحة والبناء والاستثمار الأجنبي المباشر من بين أكثر القطاعات تضررًا نتيجة لهذه الأوضاع.
وأشارت د. سمر إلى أن المظاهرات التي شهدتها أوروبا والمطالبات بالمقاطعة أدت أيضًا إلى تراجع صادرات إسرائيل إلى أوروبا بنسبة 15% خلال 3 أشهر فقط، وهي نسبة كبيرة في فترة قصيرة كهذه؛ وأضافت أن استمرار المظاهرات والمقاطعات سيؤدي إلى تراجع أكبر في الصادرات مستقبلًا، وهو ما سيعمّق الأزمة الاقتصادية داخل إسرائيل ويزيد من هشاشتها أمام الضغوط الدولية.
صورة مهزوزة أمام العالم
ومن جانبها، قالت الدكتورة نهى بكر، أستاذة العلوم السياسية وخبيرة الشأن الإسرائيلي، إن المظاهرات الأخيرة أحدثت تغييرًا حقيقيًا في صورة إسرائيل داخل الغرب، مشيرةً إلى أن: “شهدت الفترة الأخيرة بالفعل موجة من المظاهرات العالمية المنتقدة لإسرائيل، من الشباب والأكاديميين وفئات مجتمعية مختلفة، وقد انعكست هذه الاحتجاجات على صورة إسرائيل في الغرب بعدة طرق؛ أولها تغيير في الخطاب الإعلامي، فوسائل الإعلام الغربية أصبحت تتناول القضية الفلسطينية بشكل أكثر توازناً، مع زيادة التركيز على معاناة المدنيين الفلسطينيين.
بالإضافة إلى الضغط على السياسيين، حيث بدأ العديد من السياسيين في الغرب، خاصة من التيار التقدمي واليساري، يطالبون بمراجعة سياسات دعم إسرائيل،
وتحول في الرأي العام، فاستطلاعات الرأي تُظهر انخفاضاً في التأييد الشعبي لإسرائيل بين الشباب والأكاديميين والفنانين، وتزامن مع المظاهرات حملات مقاطعة، حيث ازدادت دعوات مقاطعة إسرائيل (BDS) وانتشرت في الأوساط الأكاديمية والثقافية.
وتضيف “نهى”: هناك تأثير ضاغط في وسائل التواصل الاجتماعي، فساهمت المنصات في كسر الاحتكار الإعلامي التقليدي وأتاحت روايات بديلة قدمها البعض لما يحدث من إبادة جماعية وعنف مفرط تمارسه إسرائيل ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن الدعم الرسمي الأمريكي والأوروبي لإسرائيل لا يزال قوياً على مستوى الحكومات، رغم وجود تحول تدريجي أدى لاعتراف كثير من الدول بدولة فلسطين وانسحابهم من قاعة الجمعية العامة في دورتها الـ80 حين ألقى نتنياهو خطابه، هذه التطورات تعكس تحولاً مهماً في النقاش العام حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ورغم أن الدعم الرسمي الأمريكي والأوروبي ما زال قوياً على مستوى الحكومات، إلا أنها تؤكد أن هناك تحولاً تدريجياً في المزاج الدولي، مشيرة إلى “اعتراف عدد من الدول مؤخراً بدولة فلسطين، وانسحاب وفود من قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء خطاب نتنياهو في دورتها الثمانين، وهو ما يعكس تغيراً في النظرة العالمية تجاه إسرائيل”.
بين خسائر اقتصادية بمليارات الدولارات وتراجع ملحوظ في الصادرات، وبين اهتزاز الصورة السياسية أمام العالم، يبدو أن إسرائيل تواجه واحدة من أصعب مراحلها منذ سنوات فالمظاهرات لم تعد مجرد احتجاجات تضامن، بل تحولت إلى ورقة ضغط عالمية تهدد مكانتها الاقتصادية والسياسية، وتكشف للعالم الوجه القبيح للاحتلال.