في كل حربٍ تشهدها غزة، يتساقط الضحايا بالعشرات والمئات، لكن ثمة ضحية لها وقع خاص، ضحية لا تموت وحدها بل يُراد لموتها أن يجر وراءه صمتًا مطبقا: الصحفي.
ليس غريبًا أن تتحول الكاميرا إلى هدف عسكري، فالرصاصة التي تُطلق على الصحفي لا تستهدف جسده وحده، بل تسعى لاغتيال الصورة، لإعدام الرواية، ولمحو الشاهد قبل أن يدون شهادته.
حقيقة لا تُقتل
من شيرين أبو عاقلة إلى إسماعيل الغول، من يوسف الدحدوح إلى أنس الشريف، من عشرات الأسماء التي رحلت إلى أولئك الذين ما زالوا يواجهون الموت كل يوم، تتضح الحقيقة: الاحتلال يريد أن يقتل الشاهد قبل أن يُدان الجاني، لكن الصحافة الفلسطينية أثبتت أن الحقيقة لا تُغتال.
دماء على دفتر المهنة
منذ بداية العدوان في أكتوبر 2023، ارتفع عدد الصحفيين المستهدفين بشكل غير مسبوق، لم يكن الأمر صدفة أو “أضرار جانبية”، بل بدا أقرب إلى حملة منهجية.
ووفق إحصائيات الأمم المتحدة حتى أغسطس 2025، استشهد ما يزيد عن 242 صحفيًا فلسطينيًا، أما منظمة مراسلون بلا حدود فوصفت غزة بأنها “المكان الأخطر في العالم للعمل الصحفي”.
وبدورها أكدت نقابة الصحفيين الفلسطينيين، أن العدد تخطى 270 صحفيًا، ما يجعل هذه الحرب الأكثر دموية ضد الصحافة في التاريخ الحديث.
قائمة الشرف
شيرين أبو عاقلة (1971-2022): أيقونة الجزيرة التي قضت نحبها في جنين برصاصة استهدفت رأسها رغم خوذتها ودرعها، جنازتها في القدس تحولت إلى تظاهرة عالمية ضد قتل الحقيقة.
إسماعيل الغول (1997-2024): مراسل الجزيرة في غزة، الذي واصل تغطيته رغم القصف المتواصل حتى ارتقى شهيدًا مع عائلته.
يوسف الدحدوح: استشهد بعد قصف منزله، تاركًا خلفه تسجيلات وتغطيات أصبحت مرجعًا لما جرى.
رامي مرتجى، أحمد اللبابيدي، وغيرهم، عشرات الأسماء التي قد لا يعرفها العالم، لكنها جزء من سجل طويل يُكتب بالدم،
الصحفي الفلسطيني يدخل الميدان وهو يعرف أن “الدرع الواقي” لا يقي من الصواريخ، وأن بطاقة “PRESS” لا توقف رصاصة قناص، لكنه يذهب لأن ثمة رواية يجب أن تُكتب، وثمة جريمة يجب أن تُوثق.
نساء وسط الرماد
المرأة الصحفية في فلسطين لم تكسر فقط حاجز الصورة النمطية، بل أصبحت شاهدًا حيًا على المأساة، بلغة قريبة من القلوب، تمزج بين الأمومة والشهادة الميدانية.
شيرين أبو عاقلة التي صارت رمزًا عالميًا، وتغريد العمور التي وثقت قصص العائلات النازحة، ودعاء شرف التي استشهدت في أكتوبر 2023 مع طفلتها بعد استهداف منزلها، وفاطمة حسونة، شابة مصورة، استشهدت عام 2025 بعد أن تم اختيار فيلمها الوثائقي لمهرجان عالمي.
أحد أبرز الوجوه الجديدة في هذا العدوان كان أنس الشريف، شاب لم يتجاوز الثلاثين، لكن صوته المتهدج وصوره المباشرة من قلب الدمار هزت الملايين، فقد منزله، فقد أفرادًا من عائلته، ومع ذلك استمر في نقل البث المباشر.
مقاطع الشريف تناقلتها شاشات العالم، وتحولت إلى مادة أساسية في نشرات الأخبار، كان صوته يخرج من غزة ليصل إلى نيويورك وباريس ولندن، شاهدًا على أن الحقيقة مهما حاولوا اغتيالها، تجد طريقها للخروج.
استراتيجية الاغتيال
لماذا يستهدف الاحتلال الصحفيين؟ الجواب بسيط: لأن الكاميرا أخطر من البندقية، تقارير هيومن رايتس ووتش ومراسلون بلا حدود وصفت قتل الصحفيين في غزة بأنه جريمة حرب، ومن أبرز أدلتها: القصف مزدوج على مستشفى ناصر في أغسطس 2025، إذ قُتل 22 شخصًا بينهم 5 صحفيين في لحظة واحدة.
المتوسط الشهري لضحايا الصحفيين في غزة هو 13 صحفيًا منذ أكتوبر 2023، وهو معدل لم يسجل في أي حرب أخرى بالعالم، لكن العالم اكتفى بالبيانات، الإدانات لم توقف القصف، والشجب لم يمنع الرصاص.
أشار الدكتور ياسر عبد العزيز، الخبير الإعلامي، إلى أن الحرب التي تشنها إسرائيل على الصحافة والصحفيين في غزة ليست نهجًا عابرًا أو مصادفة، بل تعكس استراتيجية كاملة تنفذها قوات الاحتلال وحكومته من أجل التعتيم ومنع وصول الحقائق إلى العالم.
كما أكد لـ “القصة”، أن هذه السياسة ليست جديدة، فمنذ إنشاء الدولة عام 1948، كانت الاستراتيجية الإعلامية المواكبة للسياسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية قائمة على السيطرة على المجال الإعلامي ومنع أي رسائل تعوق الإرادة السياسية للدولة.
وشدد عبد العزيز على أن حرب غزة الأخيرة كشفت هذا النهج بأوضح صورة، إذ وصلت الاستراتيجية إلى مستوى غير مسبوق من التبجح والاستهداف العلني بعيدًا عن أي شعور بالمساءلة أو المحاسبة، محوّلة غزة إلى أكبر مقتلة للصحفيين في التاريخ.
وختم بأن مواجهة هذه الاستراتيجية تتطلب تعزيز الضغط السياسي من خلال الحكومات والبرلمانات ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى المنظمات الأممية المعنية بحرية الصحافة وحقوق الإنسان، لأن ما ترتكبه إسرائيل بحق الصحافة والصحفيين جرائم مكتملة الأركان لا يمكن السكوت عنها.
وأخيرًا.. الدماء صارت حبرًا، الكاميرا صارت بندقية، الكلمات الأخيرة صارت نشيدًا خالدًا،
وإذا كانت الطائرات والدبابات قادرة على قتل الجسد، فإن الذاكرة التي يصنعها الصحفيون أكبر من أن تُقصف، ففي النهاية، تبقى الصورة حية، تبقى الرواية متجددة، ويبقى صوت الصحفي الفلسطيني يصدح:
“لن نموت صامتين”.