أحد أعمدة الأدب الروسي، ومن عمالقة القرن الـ 19، عبرت رواياته حدود روسيا إلى أوروبا وآسيا، وترجمت إلى الإنجليزية إضافة إلى العربية. هو مصلح اجتماعي وفيلسوف ثوري متمرد على كل التقاليد القيصرية في روسيا آنذاك، لم يكتفِ بمجرد التنظير، بل سعى لتطبيق ما يؤمن به على نفسه أولا قبل الآخرين، ورغم أنه امتلك كل شيء، فإنه كان أشبه بالصوفي الزاهد الذي اتخذ الجبال والوديان خلوة له، ولم تنطبق هذه المواصفات في زمانه إلا عليه هو فقط، إنه عملاق الأدب الروسي ليو تولستوي.
ميلاد تولستوي ونشأته
وسط عائلة من النبلاء الإقطاعيين الذين ينحدرون من عائلة لها اسم بارز في التاريخ الروسي القديم، ولد ليو تولستوي في الـ 9 من سبتمبر عام 1828 في إقطاعية ياسنايا بوليانا جنوب روسيا، محاطا بكل أشكال الترف والثراء الفاحش، وتحت خدمته أكثر من 350 فلاحا في صيغة تبلغ مساحتها 4 آلاف فدان، وفي ذلك الوقت كان يسمى الفلاح قِنًا.
في البداية، لم تكن ميول تولستوي أدبية، بل كان يحلم أن يعمل في السلك الدبلوماسي الروسي، فالتحق بجامعة قازان ودرس في كلية اللغات الشرقية، اللغة العربية والتركية، واستمر فيها حتى السنة الثالثة، ورغم أن هذه كانت رغبته الشخصية، لكن حبه للقراءة والكتابة دفعه لترك الدراسة الجامعية دون الحصول على شهادة، ولما أراد أن يعود للجامعة مرة أخرى؛ تفاجأ بأنه ورث ضيعة ياسنايا بوليانا، وهي إقطاعية ضمن أملاك أسرته، وتحتوي على 350 فلاحا يملكهم كذلك مع الأرض، إذ كان النظام الإقطاعي في ذلك الوقت يعتبر الفلاح ملكية خاصة للسيد الإقطاعي، وكان الفلاحون في ذلك الوقت يسمون بـ أقنان الأرض.
تولستوي لم يكن ذلك البرجوازي الذي يرى في غير النبلاء إهدارا لإنسانيتهم أو كرامتهم، بل سبب عدوله عن الجامعة في المرة الثانية أنه أحس بالمسؤولية اتجاه الفلاحين الذين يعملون لديه، وخشي أن يصيبهم مكروه.
بعد أن استقر في ياسنايا بولينا، تفاجأ بعودة أخيه نيكولاس الذي كان يخدم في الجيش الروسي، لقضاء الإجازة ثم يعود لأداة الخدمة العسكرية، قبلها كان تولستوي قد غرق في الملذات فكثر ذاهبه إلى الحانات واحتساء الخمر، والمقامرة التي استنزفته ماليا، ما جعله في حالة يرثى لها، فكان مجيء أخيه أشبه بفرصة لإعادة اكتشاف ذاته من جديد، فقرر أن يلتحق بالخدمة العسكرية.
الحياة العسكرية الجديدة التي خاضها صاحب «أنّا كارنينا»، جعلته يعرف الفرق بين حياة الترف وحياة الشظف، وأكسبته بُعدًا إنسانيًا جديدا جعلته يدرك مدى ضعف الإنسان وهوانه، وحاجته الدائمة لإعادة اكتشاف ذاته، وتبلورت هذه الرؤية بعد مشاركته في حرب القرم عام 1853 ضد فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية، وكانت هذه المحطة في حياة تولستوي هي الدافع الأول والملهم الأكبر لكتابة عمله الخالد «الحرب والسلام» الذي تجاوز الألف صفحة في طبعاته العربية.
بعد عودته من حرب القرم، سافر إلى أوروبا وهناك تعرف على وسائل التعليم الحديثة، وتأثر بها كثيرا وأراد أن يطبق التجربة في روسيا، فعند عودته إلى ضيعته أنشأ مدرسة لأبناء الفلاحين من أجل أن يتعلموا القراءة والكتابة، وهو أمر لم يحدث قبل ذلك في روسيا زمن القيصر نيكولاس الثاني.
كنائس من ذهب ومؤمنون جوعى
أسئلة كثيرة كانت تلح على تولستوي ومنها عن الموت وما بعده وحق الإنسان في الحياة بكرامة والعيش بحرية، وبرز هذا في كتاباته ومواقفه، أبرزها: كتابه «مملكة الرب بداخلك»، في هذا الكتاب دعى الأديب الروسي إلى المقاومة السلمية النابذة للعنف، وقد أثر هذا الكتاب في عدد من مشاهير القرن العشرين، أهمهم: الزعيم الهندي الكبير المهاتما غاندي، والمناضل الثوري نيلسون مانديلا أول رئيس أسمر البشرة لجنوب إفريقيا بعد إنهاء الفصل العنصري بها، ويتماهى مذهب تولستوي مع الفلسفة الاشتراكية الفابية التي يعد الأديب الأيرلندي جورج برنارد شو أكبر منظريها.
كذلك انتقد تقاليد الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، معتبرا إياها خالية من التعاليم الصحيحة، بل ومناقضة للكتاب المقدس، وأتى ذلك بعد أن ذهب إلى الكنيسة من أجل الصلاة، فوجد الرهبان والقساوسة يكررون ما يحفظون من آيات وصلوات بطريقة شبه ثابتة، إضافة إلى رؤيته بأن الكنيسة لا تخدم المؤمنين بل تخدم القيصر، فلا يصح أن يصلي الجوعى والفقراء في كنيسة أثاثها من الذهب، ما اعتبرته الكنيسة الأرثوذكسية وقتها خروجا عن الإيمان وعدّت تولستوي مهرطقًا أي كافرا أو زنديقا.
وفي أواخر أيام حياته، أراد تولستوي أن يحرر عبيده بل وأن يمنحهم أحقية امتلاك إقطاعيته بعد موته غير أن زوجة تولستوي صوفيا تولستويا وشهرتا سونيا، منعت حدوث ذلك بالطرق كافة متهمة إياه بالتفريط في حق أبنائه، ولم يتوقف عند هذا الحد بل تنازل عن أرباح مؤلفاته أيضا، ودعا إلى تحرير روسيا من سطوة الكنيسة والقيصر والإقطاعيين، ما اعتبره نظام القيصر نيكولاس الثاني تحديا صريحا لعرشه، وعوضا عن اعتقاله أو الزج به في السجن، ألقي القبض على مؤيديه من المواطنين العاديين وحذرتهم السلطات في ذلك الوقت من ترديد مقولات تولستوي وأفكاره، ما دفع تولستوي للتوقف عن نشر أفكاره والعمل بنصبحة تريجينيف بالعودة إلى الأدب فقط.
الشيخ محمد عبده لـ تولستوي: كتاباتك عبّرت عن الإسلام
ومن أبرز محطات حياته أيضا، الخطاب الذي أرسله له المفكر المصري والداعية الأزهري الإصلاحي الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية، سنة 1904، والذي فحواه أن كتابات تولستوي تعبر عن تعاليم الدين الإسلامي، ومتدحه الأستاذ الإمام قائلا: “ونظرت نظرة في الدين، مزّقت حُجُب التقاليد، ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد”، ما دفع الأديب الروسي إلى تأليف كتاب «حِكم النبي محمد»، الذي دافع فيه عن الديانة الإسلامية، وعن النبي محمد واصفا تعاليمه بأنها لا تقل في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية.
إلى الأبدية
بعد أن ناهز من العمر 82 عاما، وأمضى حياة حافلة بالنجاحات والتجارب الإنسانية المختلفة، غير وضعه الاجتماعي فقد كان رجلا غنيا لا يحمل أعباء الحياة، إلا أنه مع ذلك أحس بفراغ عظيم، كأنه لم يحقق ما أرد، كأنه لم يملك أي شيء، حياته المترفة أصبحت جحيما بالنسبة له، وكل أسئلته الوجودية لم يحصل على إجابتها بعد مرور أكثر من 30 عاما عليها، فقرر فجأة أن يستقل أول قطار يجده، وخلال رحلته، أصابته وعكة شديدة ألمّت به وتعرف عليه أحد الموظفين، فلما توقف القطار وُضع تولستوي عند استراحة محطة تقع في قرية استابو، إلى أن توفي نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، خلال استقلاله القطار، وذلك في الـ 20 من نوفمبر عام 1910.
ذهب تولستوي لكي يبحث عن الحقيقة غير أن حقيقة أكبر كانت تنتظره ألا وهي الموت، الذي أراحه من التفكير المتواصل ومحاولات الإجابة على أسئلة كبرى ربما لم يطرحها أحد من أبناء طبقته في روسيا، غير أنه ظل حيا بكلماته بين أبناء الشعب الروسي، وكانت النيران التي أطاحت بالقيصر فيما بعد.
حاضر في الثورة الروسية
مرآة الثورة الروسية.. بهذا وصفه مؤسس الاتحاد السوفيتي والمنظر الشيوعي الكبير فلاديمير لينين، الذي قاد صحبة المفكر الماركسي ليون تروتسكي، والرئيس السوفيتي جوزيف ستالين، زمام الثورة الروسية في عامي 1917 و1921، وقاد حركة البلاشفة التي تعد نواة الاتحاد السوفيتي الذي سيقود فيما بعد معسكر الشرق ضد معسكر الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حتى سقوطه في عام 1991.
ورغم اختلافه مع تولستوي في مسألة سلمية المقاومة غير أنه لم ينكر تأثيره في جموع الشعب الروسي، حيث كانت صوره ترفع خلال الاحتجاجات لإسقاط نظام القيصر نيكولاس الثاني.
ومن أبرز مؤلفات ليو تولستوي: الحرب والسلام – أنّا كارنينا – موت إيفان إيليتش – الحاج مراد – البعث – حكم النبي محمد.