كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحًا، وكنت نصف نائم حين رن جرس التليفون.
على الطرف الآخر جاء صوت الصحفي الشاب والشاعر الرائع الصديق نور الدين نادر، كان صوته يتدفق كعادته بالود والحماس: “إحنا عازمينك يوم كذا على احتفال بمناسبة دخولي النقابة”.
وعدته بالحضور وأغلقت التليفون ورحت في النوم.
في المكان الموعود كان الاحتفال جميلًا، أطباق من المحشي والمكرونة البشاميل والبط والفراخ، وتجمع لطيف من زملاء صحفيين وأصدقاء نور ورفاق رحلته في دروب صاحبة الجلالة، لكن قبل أن أنتهي من طبق المحشي الذي وضعته أمامي الزميلة الصحفية بسنت عادل- زوجة نور- كنت قد أدركت أن الموضوع أكبر من المحشي والبط، بل مؤامرة مكتملة الأركان دبرها صاحب الاحتفال والذين معه!
بتأييد سافر من الحاضرين أعاد نور طرح الفكرة التي رفضتها منذ أكثر من عام، واعتبرت أن الوقت ليس مناسبًا لها: محتاجين يكون لينا موقعنا الصحفي، نقدم تجربة مختلفة ومميزة ومهنية.
آثرت في هذا اليوم الاستماع إلى وجهات نظر الحاضرين الذين فاق حماسهم حماسي بمراحل.
فقد كنت مقتنعًا أن الأمر يحتاج إلى ترتيبات وتنظيم وحوارات قبل الإقدام على أي خطوة من هذا النوع، وأن أي تجربة صحفية لابد أن تؤمّن عوامل استمرارها وتطورها ونجاحها- ماديًا وتحريريًا- قبل الصدور، وإلا فإن تأجيلها سيكون أفضل.
افترقنا على وعد بدراسة الأمر من كل الزوايا قبل أن نحسم قرارنا الأخير.
في الأيام التالية لواقعة المحشي لم تتوقف اتصالات نور ورفاقه، استطاعوا بمهارة أن ينقلوا لي عدوى الحماس، لكني تمسكت بضرورة ألا نبني التجربة الموعودة على الحماس النبيل فقط، بل على دراسة واقعية لإمكانية النجاح مهنيًا وماديًا، فضلًا عن استكمال الشروط القانونية للانطلاق.
اتصلت بصديقي العزيز والحقوقي الكبير محمود فؤاد رئيس الجمعية المصرية للحق في الدواء وسألته عن إمكانية تأسيس شركة لإصدار موقع صحفي، ففاجأني أن الشركة التي أسسناها معًا في 2023 موجودة، وأنه حافظ على دفع نفقات بقائها طوال الفترة الماضية، وأننا نستطيع بالفعل أن نصدر الموقع غدًا إن شئنا، عرضت عليه أن يرافقنا في الرحلة إذا قررنا استكمالها وأن يكون رئيسًا لمجلس الإدارة لنستفيد بخبراته الكبيرة، فوافق مشكورًا بعد أن أبدى عددًا من الملاحظات المهمة على طريقة تسويق الموقع، والسبل التي تمكنه من الحصول على عقود إعلانات ورعاية وغيرها من الطرق القانونية للحصول على الدعم المادي.
رسمنا خطوطًا عريضة لنجاح مادي يضمن استمرار الموقع وتطوره، واتفقنا على لقاء قريب.
بعدها وعلى مدار أيام تحدثت مع عدد من الزملاء الصحفيين المشهود لهم بالكفاءة، طلبت منهم النصيحة، وسألتهم عن ملاءمة المناخ العام لصدور الموقع الجديد، وعن فرص النجاح، واستمعت إلى نصائحهم ووجهات نظرهم، والحقيقة أن الجميع اتفق أن الخطوة جيدة ومهمة في توقيتها.
حدث كل هذا دون أن أحسم قراري النهائي بالموافقة، ودون أن أتخلي عن كل ما يضمن أن تكون المغامرة التي سنقدم عليها محسوبة!
تواصلت مع صديقي العزيز والصحفي المتميز تامر هنداوي، استطلعت رأيه في الفكرة، وفي إمكانية أن ينضم إلينا كرئيس للتحرير التنفيذى، فوافق على طلبي، بعد أن وضعنا تصورًا لمتطلبات النجاح المادي والتحريري.
وكان حواري الأخير مع المسؤول الفني عن الموقع، صديقي الشاب الموهوب كريم سعد -لتجهيز نسخة مميزة “للقصة”- هو الخطوة التي كانت البداية بعد أن حسمت قراري، متوكلين على الله.
ثم جرت في النهر مياه كثيرة!
لقاءات واجتماعات وتدريبات لنحو شهرين، بتنا جميعًا ندرك المستهدف من هذه التجربة، ماذا سنقدم؟ ومن هو جمهورنا؟ وشروط النجاح، وطرق دعم التجربة ماديًا، وترتيبات الأقسام الداخلية، وطبيعة تعاملنا مع السوشيال ميديا، وكيف يصبح هذا الموقع صوتًا مختلفًا ومميزًا عن السائد، يشاكس ويشاغب ويبحث طوال الوقت عن الحقيقة.
وها هو الموقع بين أيديكم، حالة من المشاكسة المحببة إلى نفسي، وجزء من أفكارنا وأحلامنا وجنوننا.
كل ما يمكن أن نعد به أن يظل موقع “القصة” صوتًا مختلفًا وحرًا، يفتح صفحاته لكل الآراء والأصوات بلا إقصاء، ويحتفي بكل فكرة لامعة وموهبة صادقة، ويدافع دائمًا وأبدًا عن الحرية والمساواة والمواطنة والتنوع ودولة القانون، ويرفض في الوقت نفسه لغة العنف والتمييز والعنصرية والاستبداد.
صحافة بيضاء نبيلة، لا تنحاز إلا للناس، ولا تخضع إلا لضمائر محرريها ولقوانين المهنة والأدبيات التي تحكمها، لا تخشى مواجهة كل صور الفساد والانحراف، ولا ترتعش أمام كل من يحتمون بمناصبهم لمخالفة القانون والدستور.
هو حلم بدأ صغيرًا، ثم تحول لحقيقة راسخة واضحة، هذا الحلم ينتظر من قارئه أن يكمل نجاحه بمتابعته وتفاعله الدائمين، وأن يفعل ذلك وهو يؤمن أن “القصة” صوته الذي لن يتخلى عنه أبدًا.
هامش مهم: تحية ومحبة لفريق القصة وأصحاب التجربة من الشباب الرائع الذي اجتهد وثابر طوال الشهرين الماضيين:
نور وبسنت وعلا وطارق وحسام وإيمان وعبد الرحمن وحيدر وحسن وأحمد ومحمود وجهاد ومنة وشهد ومازن وغيداء وبسملة وعهد ومصطفى وجاسر وأحمد ومحمد.
