في لحظة مشبعة بالتوتر غير المسبوق بين مصر وإسرائيل منذ توقيع معاهدة السلام عام 1979، عاد اسم محور فيلادلفيا – أو ما يعرف بمحور صلاح الدين – إلى الواجهة كعنوان صريح لأزمة قد تعيد رسم ملامح العلاقة بين القاهرة وتل أبيب، فمع سيطرة الجيش الإسرائيلي على المحور، بدا واضحًا أن الاتفاقية التي شكلت حجر الزاوية في استقرار المنطقة لعقود تتعرض لامتحان عسير قد يفتح الباب أمام سيناريوهات لم تكن مطروحة من قبل.
نص المعاهدة عن المحور؟
معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل لم تقتصر فقط على إعادة سيناء إلى السيادة المصرية، بل وضعت ترتيبات أمنية صارمة تخص المناطق الحدودية، أهمها منع أي وجود عسكري إسرائيلي على طول الحدود مع مصر.
محور فيلادلفيا – الممتد على طول الحدود بين غزة ومصر لمسافة 14 كيلو مترًا – نصت الترتيبات على أن يبقى خاليا من الآليات العسكرية الثقيلة، بحيث تشرف عليه قوات شرطة فلسطينية من جانب غزة، بينما تراقب مصر الوضع عبر آلياتها الأمنية.
لكن ما حدث مؤخرًا قلب هذه المعادلة رأسا على عقب، احتلال إسرائيل للمحور لم يكن مجرد خطوة عسكرية، بل انتهاك مباشر وصارخ لبنود المعاهدة، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان كل الشكوك القديمة حول السلوك الإسرائيلي وعدم التزامه بالاتفاقيات الدولية.
استمرار الانتهاكات الإسرائيلية يضع المعاهدة في مهب الريح
اللواء شبل عبد الجواد، الخبير العسكري، يشدد على أن إسرائيل، رغم محاولاتها المستمرة لإحكام السيطرة على غزة، لا تستطيع الاقتراب من حدود مصر أو المساس بشبر واحد من أراضيها.
“محور فيلادلفيا هو شريط حدودي طوله 14 كيلومترا بين غزة ومصر، بينما المسافة الفاصلة بين مصر وإسرائيل تبلغ 260 كيلومترا، بعد تدمير غزة بالكامل وسيطرة إسرائيل على المحور، اعتبر البعض أن هناك انتهاكا للاتفاقيات، لكن من وجهة نظري لا يُعد هذا خرقا مباشرا لاتفاقية السلام الاتفاقية لها بنود واضحة، وما يحدث تهديد واضح للأمن القومي المصري، لكنه لا يصل بعد إلى مستوى الانهيار الكامل للمعاهدة، يشرح “عبدالجواد” رؤيته للأوضاع.
إلا أنه يعود ويؤكد “أن إسرائيل لو استطاعت أن تخترق الأمن القومي المصري لفعلت، لكنها تدرك جيداًط حجم مصر وقدرات جيشها، الخطر الحقيقي ليس في اجتياح حدودنا، وإنما في محاولات بعض الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان، التي تسير في مخطط متقاطع مع المخططات الإسرائيلية، لكننا نؤكد أن القاهرة قادرة على الردع، وإذا اقترب أي طرف من حدودنا فلن تشغله الاتفاقيات، وسيجد نفسه أمام قوة الجيش المصري”.
كما أن مصر يقول الخبير العسكري: هي الدولة العربية الوحيدة التي ما زالت تدين بشكل مباشر الجرائم الإسرائيلية في غزة، وتتخذ إجراءات دبلوماسية واضحة، منها تخفيف البعثات، وإدانة العدوان في المحافل الدولية، وأننا لسنا دعاة حرب، لكننا لا نقبل المساس بأمننا القومي، وأن التجارب أثبتت أن إسرائيل نجحت في تقليم أظافر جيوش كبرى مثل الجيش السوري، واخترقت أجواء دول عدة في المنطقة، لكنها لم تجرؤ يوما على الاقتراب من مصر.”
السيطرة الإسرائيلية على محور صلاح الدين تمثل انتهاكا صريحا للاتفاقية الموقعة مع مصر
من جانبه، يرى الدكتور أحمد يوسف، أستاذ العلوم السياسية، أن السيطرة الإسرائيلية على محور صلاح الدين تمثل انتهاكا صريحا للاتفاقية الموقعة مع مصر، وأنها جزء من السلوك الإسرائيلي المتكرر في خرق الالتزامات الدولية.
كما يرى أن المسألة ببساطة أن إسرائيل باحتلالها لمحور صلاح الدين انتهكت اتفاقيتها مع مصر في هذا الصدد، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا تشكو إسرائيل دائما من التزامات مصر بينما هي الطرف الغارق في الانتهاكات، سواء بوجودها في محور صلاح الدين أو حتى بمعبر رفح الذي يفترض أن يكون خاليا من أي قوات إسرائيلية؟”
كما يرى أن ما يحدث بالتأكيد يمثل تهديدا لمعاهدة السلام، لكنه ليس تهديدا مباشرا بالانهيار الكامل، والرئيس عبد الفتاح السيسي عبر عن هذا بدقة في كلمته أمام القمة العربية الإسلامية حين قال إن السياسة الإسرائيلية الحالية تجهض أي فرص مستقبلية للسلام، وتهدد حتى الاتفاقيات القائمة مثل المعاهدة المصرية – الإسرائيلية والأردنية – الإسرائيلية.”
السياسة المصرية اتسمت بـ”الرشادة” في التعامل مع الأزمة، هكذا يعلق أستاذ العلوم السياسية ويضيف: مصر تلتزم التزاما شديدا بمعاهدة السلام ولن تبادر بكسرها إلا إذا وقع اعتداء مباشر على أراضيها، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون الرد عبر تجميد الاتفاقية أو حتى إلغائها، لكن مصر تدرك أن الحفاظ على المعاهدة مصلحة استراتيجية، ما لم يتم تهديد أمنها القومي بشكل مباشر.
وعن الموقف الدولي، أوضح أن الولايات المتحدة ليست محل رهان في هذه الأزمة، فهي منحازة بالكامل لإسرائيل، أما أوروبا، فرغم بياناتها الإيجابية فإن تأثيرها السياسي محدود، إسرائيل لا تقدم تنازلات إلا إذا أجبرت على ذلك، وهذا ما رأيناه عندما انسحبت من سيناء بعد حرب أكتوبر، ومن جنوب لبنان بعد إنهاك المقاومة، ومن غزة عام 2005 بعد فشلها في مواجهة الفصائل الفلسطينية.
وختم بالتحذير من أخطر السيناريوهات، موضحا أن العلاقات المصرية – الإسرائيلية تتعرض لامتحان حقيقي لأن هناك تصادماً مباشراً بين سياسات القاهرة وتل أبيب بشأن غزة إذا حاولت إسرائيل دفع سكان القطاع نحو الجنوب ثم افتعلت حوادث تؤدي إلى دخولهم الحدود المصرية، فإن ذلك سيكون تهديداً غير مسبوق لمعادلة السلام وقد يدفع الأمور إلى تصعيد خطير.
بين الرؤية العسكرية والسياسية: أي مستقبل للسلام؟
تكشف تصريحات كل من اللواء شبل عبد الجواد والدكتور أحمد يوسف عن تباين في زاوية النظر، لكنه في النهاية يلتقي عند نقطة جوهرية: أن مصر لن تسمح بالمساس بأمنها القومي، وأن سياسات إسرائيل الأخيرة وضعتها أمام اختبار حقيقي للسلام القائم منذ أكثر من أربعة عقود.
من الناحية العسكرية، تبدو القاهرة واثقة من قوة ردعها، مدركة أن تل أبيب لا تجرؤ على الاقتراب من حدودها، ومن الناحية السياسية، يظهر بوضوح أن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية يضع المعاهدة في مهب الريح، ويجعل خيار تجميدها أو مراجعتها أمرا واردا إذا ما استمر الضغط على غزة، أو جرى دفع السكان قسرا نحو الأراضي المصرية.
وفي هذا السياق، يصبح محور فيلادلفيا أكثر من مجرد “شريط حدودي”، بل بوصلة تحدد مستقبل العلاقة بين القاهرة وتل أبيب: فإما أن يظل ملفا قابلا للاحتواء الدبلوماسي، أو أن يتحول إلى شرارة أزمة كبرى قد تعيد رسم خريطة المنطقة من جديد.