في أكتوبر 2025، خرج آلاف الأوروبيين في شوارع مدن مثل لندن، باريس، برشلونة، وروما، للتعبير عن رفضهم للعدوان الإسرائيلي على غزة ورفع الحصار عن القطاع؛ تظاهر المشاركون بحماس، رافعين الأعلام الفلسطينية ولافتات كتب عليها: “غزة تؤلمني” و”أوقفوا الإبادة”، مؤكدين أن التضامن مع الفلسطينيين واجب إنساني قبل أن يكون سياسيًا.
وفي أمستردام، قال أحد المشاركين لوكالة رويترز: “نحن هنا اليوم لنرفع صوتنا ضد الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون في غزة، ولنطالب بوقف فوري للعدوان”؛ وفي روما، أعربت إحدى المشاركات: “لقد طفح الكيل، يجب أن يتوقف هذا العدوان فورًا، والضمير الإنساني لا يمكنه السكوت على ما يحدث”.
هذه المظاهرات لم تكن مجرد احتجاج عابر، بل انعكاس لغضب شعبي أوروبي متزايد بعد سنوات من تراكم الوعي، ونتيجة مباشرة لتأثير وسائل الإعلام الجديد، الذي جعل الحقيقة تصل بسرعة للملايين من دون وساطة أو تزييف. هذه نبوءة يحيى السنوار زعيم حركة حماس.
الإعلام الجديد يفضح الرواية القديمة
يرى الدكتور ياسر عبد العزيز الخبير الإعلامي، بأن هذا التحول في المزاج الشعبي الأوروبي ما كان ليتحقق لولا القوة الهائلة التي اكتسبتها وسائل التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة، بعد أن أصبحت المنصة الأكثر تأثيرًا في تشكيل الرأي العام وتوجيه الوعي الجمعي.
فقد تحولت الهواتف المحمولة إلى “كاميرات مقاومة”، تنقل للعالم مشاهد القصف والدمار والمعاناة اليومية في غزة، في الوقت الذي تحاول فيه بعض وسائل الإعلام الغربية تلطيف الصورة أو تبريرها.
وأضاف” عبد العزيز” لكن هذه المرة كانت الحقيقة أسرع من الدعاية، فالفيديوهات التي خرجت من قلب غزة — على أيدي مواطنين وصحفيين مستقلين — اخترقت جدران الرقابة ووصلت إلى الملايين حول العالم، لتكشف الوجه القبيح لإسرائيل دون وساطة أو تزييف.
كما يؤكد أن هذه المشاهد المؤلمة كانت كفيلة بإحداث هزة في الضمير الأوروبي، الذي اعتاد لعقود أن يرى الفلسطيني دائمًا في موقع المتهم، لكن مع تدفق الصور والفيديوهات من داخل القطاع، تغيرت المعادلة، وبدأ المواطن الأوروبي يرى الحقيقة بلا فلاتر، ويطرح السؤال الذي غاب طويلًا: من الجاني ومن الضحية؟
انهيار الدعاية الإسرائيلية
تقول التحليلات إن آلة الدعاية الإسرائيلية التي كانت تسيطر على الإعلام الغربي لعقود فقدت جزءًا كبيرًا من قدرتها على التوجيه، بعدما بات المشاهد العالمي يمتلك مصدره الخاص للحقيقة عبر الإنترنت.
فلم تعد إسرائيل قادرة على احتكار الرواية، ولا إخفاء الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، بعد أن أصبحت الصورة “سلاحًا مضادًا” في يد الشعوب.
ويصف الدكتور ياسر بأن هذه المرحلة بأنها بداية “الإعلام بلا وسطاء”، حيث لا تحتاج الحقيقة إلى تصريح رسمي أو تغطية صحفية لتصل، بل يكفي مقطع واحد من طفل تحت الأنقاض ليقلب موازين الرأي العام في أوروبا.
45 ألف مظاهرة تكشف الغضب الشعبي الأوروبي
وبحسب توثيق المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام (إيبال)، فإن أوروبا شهدت خلال العامين الماضيين أكثر من 45 ألف مظاهرة وفعالية تضامنية مع فلسطين، امتدت عبر نحو 800 مدينة في 25 دولة أوروبية، منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة.
وفي تقرير سابق للمركز، أُشير إلى أن عدد الفعاليات خلال عام واحد فقط تجاوز 34 ألف فعالية في أكثر من 640 مدينة، ما يعكس تصاعد الغضب الشعبي واتساع رقعة الرفض الأوروبي للانتهاكات الإسرائيلية.
وأكدت بيانات مشروع رصد مواقع النزاعات والأحداث (ACLED) أن الأشهر الأولى للحرب شهدت 780 احتجاجًا مناصرًا لغزة في القارة الأوروبية، قبل أن يرتفع العدد إلى أكثر من ألفي احتجاج خلال الأشهر التالية، في مؤشرٍ على تزايد زخم الرأي العام الغربي مع توالي صور الضحايا والدمار في القطاع.
وفي المقابل، شهدت كبرى العواصم الأوروبية مظاهرات ضخمة، أبرزها “مسيرة الخط الأحمر” في كل من لاهاي وبروكسل، والتي قُدر عدد المشاركين فيها بنحو 100 ألف متظاهر في هولندا و75 ألفًا في بلجيكا، فضلًا عن حشودٍ مماثلة خرجت في روما ولندن وبرلين مطالبةً بوقف فوري للعدوان ورفع الحصار عن غزة.
محلل سياسي: الضمير الأوروبي عاد إلى رشده
وفي سياق متصل، يرى المحلل السياسي حامد جبر أن ما يحدث اليوم في شوارع أوروبا ليس مجرد تعاطف مؤقت، بل عودة الوعي بعد قرن من الصمت والتواطؤ.
ويقول في تصريحات خاصة لموقع القصة:”الضمير الشعبي الأوروبي يبدو أنه عاد إلى رشده بعد أن تيقن من أنهم أساس المشكلة وصانعيها، فمن عام 1905 إلى 1907 كان مؤتمر لندن الذي بحث آلية الاحتفاظ بمستعمراتهم في العالم وأخصها المنطقة العربية، فكانت فكرة زرع الكيان الصهيوني في فلسطين للفصل بين المغرب العربي ومشرقه، ثم جاء وعد بلفور الذي أعطى ما لا يملكه من أرض إلى من لا يستحق.”
ويضيف جبر:”قد تكون صحوة الشعوب الأوروبية لا تخرج عن تكفير لذنب قامت به حكوماتهم على مر تاريخ الأزمة، ولا يتم إغفال تعدد الأجيال وتعدد ثقافاتهم ناهيك عن اكتشاف المزاعم الصهيونية وكذبها فيما يتعلق بمناهضة السامية والجرائم المرتكبة وبشاعتها ضد شعبنا العربي الفلسطيني منذ ثورة البراق عام 1929 مرورًا بالانتهاكات الأخرى حتى تاريخنا الآن.”
وتابع المحلل السياسي:”مناخ الحرية المكتسبة بنضالات الشعوب الأوروبية ووعيها واستدراك ما فاتها يصل بنا إلى موقفها الآن ودعمها للقضية الفلسطينية، ولا أظن أن الموقف الشعبي في أوروبا يمكن أن يؤثر في قرارات حكوماتهم إلا بالقدر الذي يحفظ للكيان الصهيوني مكانته في المنطقة والمخلب الذي يستخدم متى يشاء صانعوه.”
وأشار جبر إلى أن:”الحكومات الغربية تحافظ على مصالحها ومصالح من يساندها من شركات وبنوك وأصحاب رؤوس أموال تهدف في النهاية للحفاظ على هيمنتها على أسواق تروج فيها منتجاتها، ومعظم هذه الأدوات يمتلكها صهاينة، لذلك هم صناع القرار وليست الشعوب.”
كما كشف؛ أن الموجة الشعبية المناهضة لإسرائيل لم تكن عابرة، بل موثقة بأرقام لافتة، إذ وثق المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام (إيبال) أكثر من 45 ألف مظاهرة وفعالية شهدتها نحو 800 مدينة في 25 دولة أوروبية خلال العامين الماضيين، وذلك احتجاجًا على جرائم الإبادة الجماعية في غزة والمدن الفلسطينية الأخرى.
واختتم تصريحه قائلاً:”التناقض بين الحكومات الأوروبية وشعوبها هو تناقض في المصالح، فالشعوب أنهكها التأييد المطلق للكيان الصهيوني والإنفاق عليه بدون حدود وعلى حساب رفاهيتها وتطلعاتها سيستمر هذا الأمر إلى أن تتمكن هذه الشعوب من صياغة وصنع مشاريعها بعيدًا عن مشاريع حكامها.”