منذ الأمس في جلسة الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالخالق فاروق أثناء محاكمته أمام محكمة جنح الشروق وبدر المنعقدة بمحكمة القاهرة الجديدة، وأنا في فمي ماء، آثرت اليوم أن أكتب ما شاهدته ورأيته بأم عيني.
رول جنح الشروق 171 قضية، أضيفت إليه قضية عبد الخالق لتصبح رول 172. بدأت جلسة المحاكمة في التاسعة صباحًا ولم يكن محابيس الجلسة قد حضروا بعد.
وانتهى رول الشروق، ثم بدأت المحكمة رول بدر، وبعد أن انتهت حضر محابيس بدر ثم محابيس الشروق، ولم يحضر الدكتور عبد الخالق من محبسه. وكان هناك نقيب شرطة محترم يتابع الجلسة منذ بدايتها، وكل دقيقة يتواصل في هاتفه المحمول إلى أن حانت لحظة صعود الدكتور إلى الدور الثالث قاعة 5 حيث مكان انعقاد الجلسة. وفوجئت به صحبة حرس خاص من مباحث الأمن الوطني، طوله يقارب مترين، يقف في طرقة مداولة قاعة 5 فتوجهت على الفور لكي أرى الدكتور وأطمئن عليه.
وبمجرد أن مددت يدي للسلام عليه والشد من أزره، ارتبك الحرس وثار، وأخذه من الطرقة إلى القاعة ليدخله قفص الاتهام. وبدأت الجلسة بالتأمين وإخراج الجمهور حتى أنهم رغبوا في إخراج زوجة الدكتور، فأرسلوا لنا حاجب الجلسة ليفتعل معنا مشكلة ومشادة وطلب تليفونها، فرفضنا وجذبنا الهاتف المحمول من يده. ثم حضر إلينا أمين شرطة مسئول عن تأمين القاعة، وفي حضور النقيب المحترم الذي يتولى عملية التأمين للمأمورية القادمة من سجن العاشر 6، طلبتُ منه أخذ التليفون الخاص بزوجة الدكتور ليطمئن ويتأكد أنها لم تكن تصور أو تسجل، فقال: “أنا مصدقكم”.
وظلت جالسة معنا في وسط رجال هيئة الدفاع وفرضنا عليها سياجًا من الحماية، وقلت بعلو الصوت: “الجلسة علنية ولا يمكن لأحد أن يخرجها إلى خارج القاعة”.
وبعد دقائق معدودة خرجت المحكمة على المنصة بعد تغيير وكيل نيابة الشروق وحضور عضو نيابة أمن الدولة العليا، وبدأت الجلسة، ونادى الحاجب “محكمة”، فانتفضت هيئة الدفاع للوقوف على منصة الدفاع ومعنا الدكتور عبدالخالق فاروق يقف في عزة وشموخ وكبرياء. وجري ما جري ودار ما دار من إثبات طلبات الدفاع، والتي اقتصرت على تمكيننا من الاطلاع وأثبتنا ذلك بمحضر الجلسة، وقررت لنا المحكمة أن النيابة العامة سوف تترافع.
وبالفعل ترافع ممثل النيابة بعد اعتراضنا على مرافعته قبل تمكيننا من الاطلاع، وجاءت مرافعته مفحمة ضد الدكتور، وملغمة بأكاذيب تخالف الواقع، ومكتظة بعبارات تحمل قذفًا وسبًا وإهانة لشخص الدكتور لا داعي لذكرها هنا. وأذكر منها عبارة اعترضنا عليها بعد أن فرغت النيابة من مرافعتها المكتوبة، وهي: “مدعي العلم!!”.
ورددتُ على ذلك بأنه خبير اقتصادي مثل الدولة ومؤسساتها في أكثر من منصب بحثي وعلمي، وحاصل على جائزة الدولة التقديرية، وحاصل على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية، وليسانس حقوق، ودبلوم في القانون.
إنه من العجيب والغريب والمريب أن تخاف دولة بحجم مصر من رجل علم سلاحه القلم، ونضاله دائمًا يكون بالكلمة والرأي المستنير المرتب، وكل أحاديثه بمصادر وأرقام ودراسات وأبحاث. وطبعا الدولة بتاعتنا بكل أجهزتها لا تحب أن يكتب من يفهم للرأي العام، لأنه ينير بصيرة الناس ويبين لهم الإفك والتضليل والضلال في ظل حالة الضباب وعدم الشفافية التي نعيش فيها، وفي ضوء عدم تداول المعلومات والأخبار من الجهات المعنية.
فالنظام يسير على سياسة الحجب والمنع وعدم الشفافية، ونحن غارقون في ضبابية مفرطة، لا نعلم شيئًا عن أي شيء من أي مؤسسة رسمية أو معنية بتسيير أمور الدولة، ليس في مجال الاستثمار والاقتصاد فقط، بل في كل أمورنا!!
فمن الطبيعي أن يكون عقاب هذا الرجل، هذا الدكتور العالم والمتخصص في مجاله، أن يُحرم من الورقة والقلم، وهذا الجزاء ـ لو تعلمون ـ عظيم بالنسبة لرجل مثل الدكتور عبدالخالق فاروق وغيره من المثقفين والباحثين والمتعلمين والكتاب والأدباء والمفكرين. فالورقة والقلم هما أدوات هؤلاء للتنفس الفكري، وبدونهما فإن ذلك يعد عقابًا جسيمًا.
طوال مرافعة النيابة، والدكتور المتهم بأنه “حائز للعقل وباحث ومفكر اقتصادي” وليس ناشرًا لأخبار كاذبة في الداخل والخارج حول العاصمة الإدارية الجديدة أو رأس الحكمة، ظل واقفًا في ثبات يُحسد عليه، وعلى وجهه ابتسامة وصفاء نفس يُحسد أيضًا عليهما. وقف بثبات وفي عزة وفخر وصمود وشموخ يستمع إلى مرافعة النيابة العامة، وكنت أظن أنه يقول في قرارة نفسه لعضو النيابة: “أنت دارس الكلام اللي أنت بتقوله؟”.
طبيعي جدًا التنكيل بمثل هذا الرجل والقبض عليه وحبسه ومحاكمته لأنه عالم وينشر العلم. وهناك ما يقارب 60 كتابًا من تأليفه في الاقتصاد وغيره. طبيعي أن رئيس الدولة صاحب فكرة إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة وصاحب مشروع رأس الحكمة أن يجذع من رأي الدكتور كمتخصص، لأن الرئيس لا يحب دراسات الجدوى ولا يعترف بها، أما الدكتور صاحب العقل والعلم والتخصص فيحترم دراسات الجدوى لأي مشروع، وكل ما يكتبه يكون بمصادر وبعلم وبأرقام وميزانيات ثابتة ومحددة حفاظًا على المال العام.
هكذا كانت جلسة محاكمة الدكتور الذي يناضل بالكلمة، والذي هو قابع في سجنه محرومًا من الورقة والقلم، المفترض أن تكون تهمته الحقيقية هي “حيازة عقل”، وليس نشر أخبار كاذبة في الداخل والخارج.
الدكتور علي أيوب
محامي الدكتور عبد الخالق فاروق