بدأ الأمر بإعلان ممول على تطبيق “تيك توك”، ظهر كفرصة مغرية للربح السريع دون مجهود، لينتهي الأمر بخسائر بملايين الجنيهات وضحايا لا يجدون حتى من يرد على رسائلهم.
ما بين تطبيقات مجهولة وصفحات وهمية وأسماء لشخصيات مزيفة، يتكرر السيناريو ذاته تحت غطاء شركات استثمار إلكتروني، بينما الحقيقة لا تتجاوز كونها أحدث أشكال النصب الإلكتروني العابر للحدود.
من إعلان ممول إلى فخ على “تليجرام”
“كنت داخل أبدأ بـ 5 آلاف جنيه، وبعد أسبوع “قالولي” هتكسب الضعف لو زودت المبلغ… وفجأة التطبيق اختفى، واللي كنت بتعامل معاها على تليجرام عملتلي بلوك وكل الرسائل اتمسحت”.. بهذه الكلمات يروي، أحد ضحايا منصة “فيوتشر براند – FBC”، قصته التي تحولت من حلم بالربح إلى كابوس من الخسارة والعجز.
القصة بدأت، بحسب ما وثقه التحقيق، بإعلانات ممولة انتشرت بكثافة على “تيك توك”، تروج لشركة تسويق إلكتروني تدفع أرباحًا أسبوعية مقابل تنفيذ مهام بسيطة مثل مشاهدة مقاطع الفيديو أو نشر الروابط.
بمجرد تفاعل المستخدم مع الإعلان، يتلقى رابطا للانضمام إلى مجموعة مغلقة على تطبيق “تليجرام”، وهناك تبدأ عملية الاستدراج الحقيقية، يُمنح الضحية اسم مستخدم خاص ورقم تحويل عبر المحافظ الإلكترونية، ثم يُطلب منه إيداع مبالغ مالية “تحت ضمان الشركة”.
ولإضافة مصداقية زائفة، يرسل القائمون على العملية شهادات ترخيص وكارنيهات مزورة، ممهورة بأسماء شركات غير موجودة أصلًا، لكن ما إن يشك الضحية في الأمر، حتى تُغلق المحادثة فجأة وتُشفر الرسائل بالكامل، لتختفي كل الأدلة خلال ثوان.
“اللعبة على الطمع”.. ووعود بمكاسب خيالية
آلية النصب تقوم على قاعدة نفسية بسيطة: “اربح أولًا لتثق لاحقًا”؛ فبعد أول تجربة ناجحة يحصل فيها المستخدم على أرباح حقيقية صغيرة، يُطلب منه رفع قيمة الاستثمار ليصل إلى “المستوى الذهبي” أو “الباقة المميزة”، مقابل أرباح تصل إلى 200%؛ ولزيادة عدد الضحايا، تُمنح عمولات لمن يجذب مستخدمين جدد.
أحد المشاركين الضحايا يقول: “كانوا بيقولولنا: كل ما تجيب ناس أكتر، تكسب أكتر، وفيه ناس فتحت بيوت بسبب الأرباح الأولانية، قبل ما يطير كل حاجة فجأة.
اتساع دائرة النصب
المنصة توسعت في عدة محافظات منها الغربية والبحيرة والمنوفية، ووصل الأمر إلى إقامة حفلات دعائية داخل قاعات فخمة، تحت لافتات تحمل شعار الشركة، لتأكيد المصداقية وإقناع المزيد من الضحايا.
هاني عيد: جنحة نصب.. لكن القوانين غير كافية لمواجهتها
يقول المستشار القانوني هاني عيد في تصريحات خاصة، إن الجرائم الإلكترونية جرائم متعددة، لما قضية زي دي بتروح النيابة أو مباحث الإنترنت، بيبقى فيها أكتر من اتهام: أولها النصب والاحتيال، لأن الجهة أو الشخص أو التطبيق بيوهم الناس بأرباح أو قروض أو عوائد مالية، وده جريمة يعاقب عليها القانون.
ويذكر أن القضية هنا بتندرج تحت المحاكم الاقتصادية، ومباحث الإنترنت بتقدر توصل للمجرمين، سواء أصحاب الشركة أو الأكاونتات، ومن ثم المتضرر يقدر يحرك الدعوى الجنائية ويطالب بتعويض مادي أو أدبي.
ويضيف: هي في النهاية جنحة نصب، والعقوبة فيها ممكن توصل من سنة لثلاث سنوات، وقد تزيد لسبع سنوات في الحالات المشددة. أما العاملين في الشركة أو المنصة فيعتبروا مساهمين جنائيين حسب حجم مشاركتهم، لأنهم جزء من الفعل الإجرامي حتى لو لم يخططوا له بالكامل.
ويكمل الخبير القانوني: البلاغات المتعلقة بجرائم تمت عبر الإنترنت تُقدم لمباحث الإنترنت، ويلزم تكون الرسائل والمحادثات والمبالغ موجودة عشان يقدر المحقق يتتبع أصحاب الجريمة. لكنه يلفت إلى صعوبة الوصول للجناة لو كانوا خارج مصر قائلاً:”فيه دول ما بيننا وبينهاش اتفاقيات لتسليم المجرمين، فبيبقى شبه مستحيل محاكمتهم.”
ويختتم بتحذير واضح بأن القوانين الحالية والتشريعات غير كافية، وعدد العاملين في تتبع الجرائم قليل جدًا، فالشكاوى بتقعد شهور وسنين، ولازم إعادة تشريع وتشديد للعقوبة وتوسيع صلاحيات التتبع، المجرمين دلوقتي بيشتغلوا على أعداد ضخمة من الضحايا وياخدوا مبالغ صغيرة من كل واحد، وفي الآخر بيجمعوا ملايين الجنيهات.”
أحمد السبكي: “الذكاء الاصطناعي خدم النصابين.. والمواطن لازم يعتمد على المنطق مش التقنية”
من جانبه، يوضح خبير الأمن السيبراني المهندس أحمد السبكي أن التقدم في أساليب تصميم المواقع الإلكترونية أتاح إنشاء مواقع على مستوى عالٍ جدًا من الحرفية، حتى لو كانت خالية من أي محتوى حقيقي، فالنصابين لا ينجحون إلا بوجود الطامعين في الثروة السريعة دون مجهود.
ويشرح أنه يمكن إدارة شبكات إلكترونية كاملة بعدد قليل من الأشخاص، خاصة باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التي تختصر الوقت والردود وتجذب العملاء من خلال سيناريوهات معدة مسبقًا.
ويتابع أن غالبًا ما يبحث أصحاب هذه المشروعات غير الشرعية عن دول لا تمتلك قوانين صارمة أو اتفاقيات تعاون مع مصر، وهناك يتم استضافة المنصات بعيدًا عن الملاحقة، ورغم استخدامهم أدوات تخفي مثل عناوين IP وهمية، إلا أن الخبراء المحترفين قادرون على تحديد مواقعهم الحقيقية، لكن العائق القانوني الدولي يمنع الملاحقة.
وعن دور التواصل الاجتماعي:” وسائل مثل تيك توك وتليجرام أصبحت بيئة خصبة للترويج للمشروعات المشبوهة، وصعب جدًا حاليًا مراجعة كل المحتوى المنشور عليها بسبب العدد الهائل من المستخدمين.”
ويضيف: النصابين بيخاطبوا الغرائز الإنسانية — الطمع، الرغبة في الثراء، والأمان المالي — وده اللي بيخلي الفريسة تقع بسهولة، المواطن العادي مش هيقدر يكتشف الموقع المزيف من الوسائل الفنية، لكن من المنطق: لما تشوف أرباح خيالية بدون مجهود، أو رسائل عامة مش موجهة لشخصك، أو أموال ضخمة بتتحرك بدون ضمان، لازم تشك فورًا.
ويختتم “السبكي” بقوله، الموضوع مش تقني بس، ده قانوني وتوعوي بالدرجة الأولى، لازم الدولة توثق علاقاتها مع الدول اللي تستضيف المواقع دي، وتنظم حملات توعية موسعة تبدأ من المدارس، وتدخل في الإعلام والدراما، لأن رفع الوعي هو الحل الحقيقي، الرقابة على التطبيقات مش كافية، اللي هيحمي الناس هو الفهم والمعرفة.
الثراء السريع.. مرض اجتماعي يغذيه ضعف التنشئة وضغط المعيشة
وفي سياق متصل؛ أكدت الدكتورة سوسن الفايد، أستاذ علم النفس السياسي بالمركز القومي للبحوث، أن انتشار ظاهرة الاختراق الإلكتروني والسعي وراء المكاسب المادية عبر الإنترنت يرتبط بعدة متغيرات نفسية واجتماعية متشابكة، في مقدمتها الفراغ الفكري، وغياب الاهتمامات أو الأهداف الواضحة لدى الأفراد.
وأوضحت أن الضغوط المادية والنقص في القدرة على تلبية متطلبات الحياة تدفع الكثيرين إلى البحث عن أي وسيلة لتحقيق الربح، لا سيما مع رؤيتهم لنماذج من حولهم تحقق مكاسب وأرباحا كبيرة، ما يجعلهم يطمعون في تقليد تلك النماذج والوصول إلى نفس النتيجة.
وأضافت أن غياب الردع وضعف الملاحقة القانونية يسهم في تفشي هذه الظاهرة، حيث «يتم انتهاك القواعد وإحداث تشويش وأثر سلبي على أرض الواقع، في ظل عدم قدرة حقيقية على الملاحقة أو الردع لهذا النوع من الهجوم عبر الإنترنت».
وتابعت “الفايد” أن البحث عن المال أصبح العامل الأساسي وراء كثير من السلوكيات المنحرفة على الشبكة، مضيفة: «قدامهم نماذج بيحققوا أرباح ومبالغ كبيرة، فده بيشجعهم يقلدوهم، لكن أحيانًا بينتهجوا أساليب بتؤذي الآخرين، وده اللي محتاج مراجعة».
وشددت على أن المجتمع يعاني منذ سنوات من أزمة قيم حقيقية، حيث غابت المبادئ، وأصبح البعض يتبنى أسلوبًا “ميكافيليًا” لتحقيق أهدافه، قائلة: «ما فيش ردع على الضمير ولا المبادئ، بحيث إنه يلتزم، بيعمل أي خروقات توصله للهدف، من غير ما يهتم بالأخلاق أو القيم».
وأشارت إلى أن سرعة انتشار المحتوى عبر الإنترنت تخلق بيئة خصبة لهذا السلوك، مضيفة: «هو بيبث أي حاجة على النت، في لحظة بتنتشر وبتعمل ردود أفعال، وكل واحد وشطارته في إنه يجذب الآخر، ومع ارتفاع الأسعار والضغوط المادية بيصر على إنه يحقق نجاح بأي شكل».
وأكدت “الفايد” ضرورة وجود مراجعة مستمرة وتجريم واضح للسلوكيات المنحرفة، مشيرة إلى أهمية دور التنشئة في غرس القيم والمبادئ منذ الصغر، قائلة:«التنشئة لها دخل كبير قوي، زراعة القيم ودعم الضمير عشان ما يبقاش الهدف المال فقط، لأن الغاية تبرر الوسيلة دي بتبدأ من الأسرة، للأسف في ضعف في المجتمع التربوي، فده أنتج جيل ممكن يعمل أي حاجة عشان المال».
واختتمت أستاذة علم النفس السياسي حديثها بالتأكيد على أن مواجهة الظاهرة تتطلب خطة متكاملة من مؤسسات الدولة، مضيفة:«الموضوع محتاج دعم من وزارة الثقافة والإعلام والإعلام الجديد والإنترنت، ويبقى على مستوى مجلس الوزراء خطة كاملة متكاملة من الجهات المعنية، خصوصًا الثقافة الدينية، بحيث نقدر نوجد مناخ صحي يحد من انتشار الظاهرة».
ما بين قانون غائب ووعي غافل
ورغم التحذيرات المستمرة من مباحث الإنترنت ووزارة الداخلية، ما زال النصب الإلكتروني يجد أرضًا خصبة في مجتمع يبحث عن “الربح السريع”.
وبينما تظل البلاغات حبيسة المكاتب، تبقى المنصات الوهمية تتبدل أسماؤها وتنتقل من “تيك توك إلى “تليجرام” فـ”واتساب”، لتبدأ دورة نصب جديدة تحت شعار مختلف.
وفي النهاية، يظل الثراء السريع هو الطُعم.. والضحية هو المواطن الذي يصدق أن الربح يأتي بضغطة زر.