ما إن وطئت قدماي منطقة وسط البلد، لم أكن أتخيل كم هو هذا التَغيُّر الذي طرأ على ذلك الجزء التاريخي من المدينة القاهرية، على مدار أكثر من عشرين عاماً كنت كالطير المهاجر الذي لا وطن له مابين أوروبا وأمريكا هكذا قضيت كل ذلك الوقت، ما بين صفقات العمل والترحال.
قررت أن أعود أدراجي مرة أخرى إلى أرض الوطن، إحساس أقرب ما يكون من طفل ارتمى في حضن أمه الدافئ بعد غياب من السنوات القاحلة، إحساس بالدفء والاستقرار في وطن لا يعرف معناه إلا من جرب مرارة الهجرة، كان في انتظاري صديقي أحمد يسري مدرس التاريخ في إحدى المدارس الثانوية.
بعد عدة أيام أحضر لي برنامجًا ترفيهيًا و سياحيًا لأبرز الوجهات السياحية في أرض الوطن، قلت ساخرًا “أنا لست سائحًا يرتدي برنيطة”، هيا بنا إلى وسط البلد، نظر لي وعلى وجهه أمارات التعجب، وقال متسائلاً: “إيه الجديد في وسط البلد؟، إحنا حافظين كل شبر في وسط البلد”. قلت وقد ارتسمت على وجهي ابتسامه تنم عن الثقة، وسط البلد مكان دائم التجدد ياصديقي هيا بنا وسترى بنفسك.
السفر عبر الزمن في عربة “كاريته”
في صبيحة اليوم التالي، امتطينا أنا وصديقي المؤرخ “عربة الكاريته”، تلك العربة الصغيرة ذات الحصان الواحد، التي تعتبر تراثا من تاريخ وسط البلد، وهي وسيلة الانتقال المميزة في ذلك الميدان التاريخي “ميدان التحرير”.
البداية من كوبري قصر النيل
أشار صديقي إلى الكوبري العتيق ذي الأربعة أسود، وقال هل تعرف تاريخ ذلك الكوبري، قلت لا أريد أن أعرف ذلك منك يا سيادة المؤرخ، قال مبتسماً:
أول كوبري تم إنشاؤه على نهر النيل في مصر ويربط بين ميدان التحرير والزمالك في القاهرة.
بدأ بناؤه في عهد الخديوي إسماعيل عام 1869 واكتمل عام 1871، وقد عُرف أيضاً بـ “كوبري الخديوي إسماعيل”، يتميز الكوبري بوجود 4 تماثيل لأسود مصنوعة من البرونز عند مدخليه، وهي جزء من التصميم المميز للكوبري.
صمم الكوبري الحالي الذي تم افتتاحه في يونيو 1933، وهو نسخة جديدة تم بناؤها مكان الكوبري القديم. يبلغ طوله 382 مترًا وعرضه 20 مترًا، وسمي “قصر النيل” نسبة إلى قصر الأميرة نازلي هانم، ابنة محمد علي باشا، والذي كان يقع بالقرب منه.
أما الأسود الأربعة نحتت عبر الفنان الفرنسي هنري ألفرد جاكمارت بأمر من الخديوي إسماعيل.
أصل الأسود: تم صنع الأسود في الأصل لتزيين بوابات حديقة حيوان الجيزة، ولكن تم نقلها لاحقًا إلى كوبري قصر النيل في عهد الخديوي توفيق، الذي أراد أن يعطي الكوبري مظهرًا يليق باسم والده الخديوي إسماعيل.
الكوبري القديم: استمر الكوبري القديم لمدة 60 عامًا، حيث تم هدمه عام 1931 لإنشاء الكوبري الحالي الذي يلبي متطلبات النقل الحديثة.
الأهمية: يعتبر الكوبري معلمًا تاريخيًا ومعماريًا مهما في القاهرة، ورمزًا لنهضة القاهرة في عهد الخديوي إسماعيل.
مسجد عمر مكرم مسجد السياسية والتاريخ
وصلنا إلى مسجد عمر مكرم ذلك المسجد التاريخي، في ميدان التحرير، كان وقت صلاة الظهر دخلنا للصلاة، وعندما انتهينا من الصلاة أخذنا جولة سريعة في المسجد العريق، ثم أردف قائلاً:
تم بناؤه في العهد الملكي تحت اسم مسجد “الشيخ العبيط” وأعيد تسميته بعد ثورة 1952 تخليدًا لذكرى الزعيم الشعبي عمر مكرم.
الاسم الأصلي: بدأ بناؤه في العهد الملكي كضريح ومسجد يُعرف بـ”جامع العبيط” نسبةً إلى عالم الأزهر الشيخ محمد العبيط الذي يُعتقد أن ضريحه يقع فيه.
تغيير الاسم: بعد ثورة يوليو 1952، وسعته وزارة الأوقاف، وغيّرت اسمه إلى “مسجد عمر مكرم” تيمنًا بالزعيم الشعبي الذي ساهم في وصول محمد علي إلى الحكم.
التصميم المعماري: صممه المهندس الإيطالي ماريو روسي، وهو مبنى معلق يرتفع عن مستوى الشارع بسبع درجات رخامية، ويتكون من جزأين منفصلين؛ جزء مخصص للصلاة وجزء آخر مخصص لإقامة العزاء والمناسبات.
أهميته ودوره
قبلة المشاهير: اكتسب المسجد شهرة خاصة كونه المكان الذي تقام فيه جنازات وعزاء العديد من الشخصيات العامة، مثل السياسيين، والمثقفين، والفنانين، والرياضيين، مثل الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل والفنان نور الشريف.
مكان العزاء: يضم المسجد قاعتين للمناسبات يتم تأجيرهما لإقامة العزاء والجنازات.
المتحف المصري القديم
توقف بنا السائق أمام المتحف المصري القديم في قلب ميدان التحرير، وما إن وصلنا حتى رأينا أعدادا غفيرة من السائحين يدخلون إلى المتحف في لهفة، ثم تحدث صديقي قائلاً:
هو أحد أكبر وأشهر المتاحف العالمية، يقع في قلب القاهرة بالجهة الشمالية لميدان التحرير. يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1835 وكان موقعه حينها بحديقة الأزبكية، حيث ضم وقتها عدداً كبيرًا من الآثار المتنوعة، ثم نُقل بمحتوياته إلى قاعة العرض الثانية بقلعة صلاح الدين، حتى فكر عالم المصريات الفرنسي أوجوست مارييت الذي كان يعمل بمتحف اللوفر في افتتاح متحف يعرض فيه مجموعة من الآثار على شاطئ النيل عند بولاق.
وعندما تعرضت هذه الآثار لخطر الفيضان تم نقلها إلى ملحق خاص بقصر الخديوي إسماعيل بالجيزة، ثم جاء عالم المصريات جاستون ماسبيرو وافتتح عام 1902 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني مبنى المتحف الجديد في موقعه الحالي في قلب القاهرة.
تمثال طلعت حرب
وقفنا منبهرين أمام شموخ تمثال طلعت حرب، الذي بدا وكأنه يراقب المكان عن كثب، وقلت لصديقي المؤرخ، هيا يا صديقي أمتعنا بتاريخ ذلك التمثال العريق:
كان الخديوي إسماعيل يحلم بأن يحول القاهرة إلي مدينة تضاهي باريس في جمالها ورونقها وجلب العديد من المهندسين الإيطاليين والفرنسيين لذلك.
وتم تشييد عمارات على الطراز الاوربي. وعند الانتهاء من تشييد العمارات تم تسمية الشارع والميدان باسم ميدان سليمان باشا نسبة إلى سليمان باشا الفرنساوي مؤسس الجيش المصري أبان عهد محمد علي تكريما له، وتم إنشاء تمثال له بوسط الميدان.
وظل الميدان والشارع بهذا الاسم حتى قيام ثورة يوليو عام 1952م والتي قررت التخلص من جميع الرموز الملكية والعهد البائد، ونقلت تمثال سليمان باشا إلى المتحف الحربي بالقاهرة ووضعت بدلا عنه تمثال الاقتصادي المصري “طلعت حرب” وتم تسمية الشارع والميدان باسمه وهو المسمى الباقي حتى الآن.
إلى ميدان رمسيس.. ميدان الحركة والهجرة الداخلية
وصلنا في المساء إلى ميدان رمسيس، وكان الاختلاف بينه وبين ميدان التحرير واضحا وضوح الشمس، الميدان اتسم بنوع من الفوضى المرورية، والباعة الجائلين في كل مكان، أشرت إلى صديقي، وهتفت متسائلاً: أين ذهب تمثال رمسيس، تعالت ضحكات صديقي المؤرخ وقال لا تقلق يا صديقي التمثال بخير وموجود حالياً في المتحف المصري الكبير حيثُ تم نقله في عام 2006:
كان ميدان رمسيس قرية اسمها “أم دنين”، حيث كان فيها جامع سمي بجامع “أولاد عنان”، الذي هو جامع الفتح حاليا.
وفى عهد محمد على باشا كان ميدان رمسيس متنزها عاما، وفي عهد عباس الأول تم إنشاء شارع رمسيس الذي سُمي بشارع عباس الاول ووصل لمنطقة “الريدانية” العباسيه حاليا، كما أنشئت محطة مصر بعد توقيع الخديو عباس لاتفاقية مع الحكومة الإنجليزية لإنشاء خط للسكك الحديدية بين القاهرة والإسكندرية.
وفى عهد الملك فاروق تغير اسم الشارع إلى شارع “الملكة نازلى” والدة الملك فاروق.
وبعد وضع تمثال “نهضة مصر” فى وسط الميدان للفنان المصري العالمي “محمود مختار” فى سنة 1926 الذي أزاح عنه الستار، سعد باشا زغلول وسمي الميدان بميدان نهضة مصر وشارع نهضة مصر.
وبعد قيام ثورة 23 يوليه تم نقل تمثال نهضة مصر أمام حديقة الحيوان بالجيزة، وتم وضع تمثال رمسيس التانى ، واستقر اسم شارع رمسيس وميدان رمسيس حتى الآن.
محطة مصر العريقة
تأسست أول محطة لسكك حديد مصر في عام 1853 مع بناء أول خط حديدي يربط القاهرة بالإسكندرية، وكان اسمها “باب الحديد”، تعرض مبنى المحطة الأصلي للحريق في عام 1882، وتم إعادة بنائه ثم توسيعه مرتين، الأولى عام 1892 والثانية عام 1955، ليصبح فيما بعد يعرف باسم “محطة رمسيس” بعد وضع تمثال الملك رمسيس الثاني عام 1955، ورغم إزالته عام 2006 فإن الاسم ظل مستخدماً.
مراحل تطور المحطة
1853: تم بناء مبنى محطة مصر بالتزامن مع إنشاء أول خط سكة حديد في مصر لربط القاهرة والإسكندرية.
1856: شهدت المحطة انطلاق أول قطار للجمهور.
1882: تعرض المبنى الأصلي للحريق.
1892: تمت توسعة المبنى للمرة الأولى.
1955: تم توسعة المبنى مرة أخرى ووضع تمثال الملك رمسيس الثاني، مما أدى لتسمية المحطة والميدان المحيط بها بـ “ميدان رمسيس”.
2011: تم تطوير المحطة وتجديدها مع الحفاظ على تصميمها التاريخي.
كوبري الليمون
هو جسر تراثي في ميدان رمسيس بالقاهرة، يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1889 في عهد الخديوي إسماعيل. سُمي بهذا الاسم لوجود سوق لبيع الليمون بالقرب منه عند إنشاء ترعة الإسماعيلية، وكان في بدايته مصنوعًا من الخشب ثم تم استبداله بالحديد وشهد مرور الترام في بداية القرن العشرين.
تاريخ الكوبري
تاريخ الإنشاء: 1889 في عهد الخديوي إسماعيل.
سبب التسمية: وجود سوق للّيمون بالقرب من موقع الكوبري عند إنشائه.
المواد الأصلية: كان مصنوعًا من الخشب في البداية.
التطوير: تم استبداله لاحقًا بكوبري معدني وشهد مرور الترام في بداية القرن العشرين.
الأهمية التاريخية: يُعتبر جزءًا من تاريخ ميدان رمسيس وتطوره، وهو مبنى ذو طراز معماري مميز.
الوضع الحالي: خضع لخطط ترميم للحفاظ على طرازه المعماري التراثي.
