بابتسامة خفيفة وملامح مرهقة وجسد نحيل، تقف السيدة الستينية هدى عمران في طابور طويل أمام ماكينة الصراف الآلي في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة الكبرى، وهي تردد: “يوم المعاش ده يوم مقدس عندنا، بنستناه من الشهر للشهر، اللي بيخلص بعد 10 أيام، والـ20 اللي باقيين بتمشي بالسلف والجمعيات، وربنا بيسترها.”
“هدى”، التي قضت أكثر من أربعين عامًا في الخدمة الحكومية، تتقاضى معاشًا لا يتجاوز 5500 جنيه، تقول وهي تتنهد: “يعني بعد كل العمر ده، لسه معاشي أقل من الحد الأدنى للأجور، عندي بنت بتتجوز والتانية في الجامعة، والعيشة نار.”
لكن “هدى” ليست استثناء، بل مرآة لواقع يعيشه ملايين المصريين الذين ينتظرون أول الشهر كموعد مقدس، يحمل في طياته مزيجًا من الأمل والقلق.
منذ زمن، كان أول الشهر رمزًا لاستمتاع واستقرار الأسر، لكنه اليوم صار يومًا لإعادة الحسابات الدقيقة بين ما تبقّى من المرتب أو المعاش وما يتوجب دفعه من التزامات، ربما ينتهي في نفس يوم الحصول عليه.
مرت مصر بمحطات اقتصادية مختلفة، ما بين الإصلاح والتنمية، وانتهاءً بالبرامج الاقتصادية التي حلت مع برنامج صندوق النقد الدولي، والتي غيّرت خريطة المجتمع الطبقية.
فقد تقلصت الطبقة المتوسطة تدريجيًا، بعدما كانت صمام أمان اقتصادي واجتماعي لعقود، لتجد نفسها عالقة بين طبقتين لا ثالث لهما: فقراء يزداد عددهم يومًا بعد يوم، وأثرياء تزداد ثرواتهم بفضل أنماط استهلاك مختلفة تمامًا.
وظيفة واحدة لا تكفي
محمد يسري، شاب في منتصف الثلاثينيات، يعمل في قسم الحسابات بإحدى الشركات القابضة، يقول بابتسامة تحمل تعبًا واضحًا: “كنت زمان الراتب بيكفي ويزيد، دلوقتي حتى مع الزيادات مش حاسس بأي فرق، ولا ملاحق على الأسعار اللي كل يوم في وضع.”
“محمد”، الذي يعمل منذ 13 عامًا، يعيل ثلاثة أطفال ويسكن في شقة إيجار تبلغ 4000 جنيه، يضيف: “المرتب بيخلص قبل نص الشهر، وعشان أعيش لازم أدور على شغل تاني، انتهى عصر الوظيفة الواحدة، دلوقتي وظيفة واحدة ما تكفيش.”
هرم مقلوب
يصف الخبير الاقتصادي أحمد خزيم المشهد بقوله إن “هرم المرتبات في مصر مقلوب”، فبدلًا من أن يكون الجزء الأساسي من الأجر هو الأعلى كما يفترض، أصبح الجزء المتغير هو الأكبر، ويرجع ذلك إلى طريقة احتساب التأمينات، التي دفعت كثيرين إلى تفضيل رفع الجزء المتغير على حساب الأساسي، ما أثر سلبًا على استقرار الأجور وحقوق العاملين مستقبلًا.
ويضيف “خزيم” أن التضخم وتعويم الجنيه تسببا في تآكل الدخل الحقيقي للمواطنين، “الأسعار بتزيد أسرع من المرتبات، والجنيه قيمته بتقل، وده بيخلي الطبقة المتوسطة تتراجع وتتآكل.”
فجوة العدالة بين المتساوين
يشير الخبير الاقتصادي إلى مفارقة لافتة: “خريج كلية التجارة في بنك خاص قد يتقاضى عشرة أضعاف زميله في مصلحة حكومية، رغم أن المؤهل واحد، الفروق دي غير منطقية وتضرب العدالة في مقتل، لازم تكون في سياسة أجور وطنية تضمن حدًّا أدنى من المساواة.”
توتر مكتوم وركود صامت
يرى “خزيم” أن الفوارق في المرتبات لا تبقى داخل جدران المؤسسات فقط، بل تمتد إلى المجتمع كله، فضعف القوة الشرائية يؤدي إلى ركود في الأسواق، وتراجع في الأنشطة الاجتماعية، بل ونشوء توترات داخل الأسر نفسها بسبب الضغوط المادية.
ويضيف أن “هذا الوضع يخلق نوعًا من الاحتقان الطبقي الذي يتفاقم إذا لم يُعَد النظر في هيكل الأجور.”
المتقاعدون.. ضحايا النسيان الاقتصادي
يصف “خزيم”: “أصحاب المعاشات بأنهم ضحايا قرارات سابقة وظروف حاضرة، فهم دفعوا سنوات من أعمارهم في العمل، ثم وجدوا أنفسهم في مواجهة الغلاء بأموال لا تكفي الحد الأدنى من الحياة، والعدالة تقتضي إعادة النظر في معاشاتهم بما يضمن لهم حياة كريمة، خصوصًا مع تقدمهم في السن وزيادة احتياجاتهم.”
موعد لا يفقد قدسيته
رغم تغير الزمن، بقي أول الشهر رمزًا محفورًا في الذاكرة، لكن بين الطوابير الطويلة أمام ماكينات الصراف، وبين حسابات الأسرة التي لا تنتهي، صار الموعد المقدس اختبارًا شهريًا لقدرة المصريين على الصمود في وجه أزمات الاقتصاد، وتآكل الطبقة الوسطى، وتحولات لم تترك بيتًا إلا وطرقت بابه.
