عندما ابتسمت ليلى سويف، بكيتُ أنا.
كانت ابتسامة ضعيفة، وفرحة منهكة بنضالٍ طويل لم تكن نتيجته مضمونة يومًا، ولا نهايته واضحة. أخيرًا، وضعت رأسها على صدر ابنها بعد ليالٍ ثقيلة، وأعوامٍ بطيئة، ظنّ كثيرون أنها لن تمر أبدًا. نهاية نصف سعيدة، أو حتى هدنة إنسانية، كُتبت أخيرًا لهذه القصة التي طال أمدها.
لقد كان قلبي يرقص فرحًا مع علاء عبد الفتاح، ذاك الذي لم ألتقِه يومًا، ولم تره عيناي إلا عبر الشاشات، ومن خلف القضبان، ومن بين السطور.
لكن، من قال إن الإنسانية تحتاج إلى معرفة شخصية؟
من قال إن القلب لا يخفق إلا لأجساد نلمسها؟
الإنسانية لا تعرف الحدود، ولا تحترم الجدران، ولا تعترف بالقوانين التي تردع المشاعر.
هي رقصةُ من استعاد شيئًا من نفسه، شيئًا من حلمٍ قديم، من صديقٍ لم يعد يعرفه، ومن وطن نسيه، أو كاد…
كانت رقصة داخلية، تحدث شرخًا في جدار يأس وغضب تراكم على مرّ سنوات. شرخًا أدخل نورًا صغيرًا إلى زنزانةٍ في القلب، كنت أعدها لتستقبل حكاية حزينة أخرى.
كنت أتوقع الأسوأ:
– أن لا لقاء.
– أن لا عناق.
لكن المفاجأة جاءت:
أمٌ متعبة، وابنٌ نجا.
هل يمكن ألا تبتهج؟
كيف لقلبي ألا يبتهج ويفرح؟ فعلاء هو واحد من الذين ترى فيهم أزمة وطن، تنظر إليه فترى نفسك. نسمعه، فنتذكّر أولئك الذين اختفوا، سُجنوا، غابوا، دون أن نُمسك بخيطٍ يُعيدهم.
لك أن تختلف مع علاء، وأفكاره، ومقالاته، وكتبه، ومواقفه… لك أن تعارضه، وأن ترفض رؤيته.
لكن، هل لك ألا تكون إنسانًا؟
هل لك أن ترى فرحة اللقاء بعد الحرمان الطويل، ثم يبقى قلبك ساكنًا لا يهتزّ؟
هل لك أن تشاهد أمًا تبكي على صدر ابنها بعد أكثر من عقدٍ من الترويع والمطاردة والسجون، ثم تبرر صمتك بـ”الحياد السياسي” أو “الموقف الفكري”؟!
إنها لحظة إنسانية خالصة. لحظة لا تعني فقط أسرة عبد الفتاح، بل تعني كل أمٍ لم ترَ ابنها، كل ابنٍ نام بعيدًا عن حضن أمه، كل زوجة أعيتها الأسئلة أمام أطفال يسألون: “متى يعود بابا؟”
لحظة تعني كل من خاف أن يحلم، أو نسي شكل الحياة خارج الزنزانة.
“عقبى لأولاد الناس كلها”
كم كانت كلمة عظيمة، نطقتها ليلى سويف بعد اللقاء.
جملة قصيرة، لكنها تزن كتبًا طويلة ومسودات قوانين ثقيلة عدلًا ورحمة.
في ذروة فرحتها، تذكّرت الأمهات الأخريات، وتذكّرت أن ليس كل القصص تنتهي بالعودة، ولا كل الصابرين يُكافَؤون.
قالتها بصدق لا يشوبه انتقام ولا مرارة، قالتها وكأنها تدعو لهذا الوطن أن يُشفى، أن يرى أبناءه وهم يخرجون من السجون لا النعوش.
جيل علاء
هل يمكن الحلم الآن أن يتم كذلك، أخيرًا، الإفراج عن آلاف الـ”علاءات” الآخرين الذين قضوا أعوامًا ثقالًا، وتنتظرهم ليلاهم على أعتاب السجون؟ هل يمكن ألا تكون “قضية فردية”، أو “إفراجًا لأسباب سياسية”؟ القصة أكبر من علاء واحد، وأكبر من كل الأسماء.
القصة عن جيل كامل من الحالمين، من المؤمنين بقدرة الكلمة، من الذين أرادوا حياةً تُشبه أحلامهم، ففقدوا الحلم والواقع.
اليوم خرج علاء… لكن هل خرج الحُلم أيضًا؟
هل سيُمنَح هذا الوطن فرصة أن يرى أبناءه المختلفين وهم يكتبون فيه، لا عنه؟
هل آن أن نغلق باب الزنازين، ونفتح أبواب النقاش؟
هل آن أن يتوقف الوطن عن معاقبة أولئك الذين أحبّوه بصدق، ولكن بطريقتهم؟
إن خروج علاء ليس نهاية، بل فرصة نادرة لبداية جديدة. بداية نُجرّب فيها أن نكون أكثر إنصافًا، أكثر عدالة، أكثر رحمة. بداية نفهم فيها أن الدولة القوية لا تُقاس بعدد من تسجن، بل بعدد من تحتمل اختلافهم دون أن تسحقهم.
وأخيرًا… لعلها لا تكون آخر الابتسامات… و”عقبى لأولاد الناس كلها”.