قبل ثورة يناير أشاد رئيس حكومة بالانتعاش الهائل الذي أحدثه الموبايل اقتصاديًا، وتوقع (وقد كان توقعه صحيحًا) أن يحتل الموبايل المركز الأول أو الثاني في التجارة.. كان الرجل يتكلم بفخر كبير، وكنت أسمعه بغيظ أكبر.
رواج تجارة الموبايل ومشتملاته هو نص القصة المبهر. كل ماركات الموبايل التي أنتجتها عقول من الشرق والغرب، موديلات كثيرة وإكسسوارات أكثر، وبين كل محل موبايل وآخر محل موبايل.
أتذكر أنني كنت أتمشى يومًا قريبًا من حينا القديم، وكان لدي وقت فقررت أن أزور الحي، وكانت الصدمة مروعة.
اختفت كل المحلات التي كنت أعرفها وأتعامل معها لصالح محلات بيع أجهزة الموبايل الجديد والمستعمل، ومحلات “شئ لزوم الشئ”: اللي يبيع كفرات للموبايل، واللي يبيع سماعات وشواحن.
أتذكر أن حينا كان به عدة محلات أساسية: الخردواتي، واللبان، والعطار، والمكتبة لبيع الأدوات المدرسية، والبقال، وثلاثي البروتين (جزار، وفرّاجي، وسماك)، وفكهاني يبيع الخضروات والفاكهة معًا، وبالطبع صيدلية.
اختفت معظم هذه المحلات، ولم يتبقَ سوى البقال (الذي أصبح اسمه سوبر ماركت) وثلاثي البروتين والصيدلية والفكهاني.
اختفى اللبان والخردواتي والعطار والمكتبة، والسبب أن هذه المهن غير مربحة مقارنة بأرباح الموبايل. نص القصة أن زيادة الطلب على الموبايل، من البديهي أن تتجه الأعمال للأكثر طلبًا.
ولكن نص القصة – واقتصاديًا أيضًا – أن الموبايل هو الأقل توليدًا للوظائف وتحقيقًا لإنعاش حقيقي لكل أشكال العمل الاقتصادي.
الخردواتي حين يبيع خيوطًا وأدوات خياطة ينعش عشرات الصناعات متناهية الصغر وكثيفة العمالة، وبالمثل اللبان والعطار والمكتبة.. كل هذه التجارة تجر وراءها أو بالحري تنعش أعمالًا وقطاعات ووظائف أخرى.
ولكن في بلد لا ينتج الموبايل إلا لمامًا، ويستورد الأجهزة وكل المستلزمات، فإن الانتعاش الظاهري لا يعكس سوى نزيف للعملة الصعبة وتقليص للوظائف وإضعاف للأنشطة الاقتصادية الحقيقية.
نص القصة أن هناك مليارات من العملة المحلية والأجنبية في سوق الموبايل ومئات الآلاف من البيوت المفتوحة، ولكنه سوق عاقر لا يخلق طلبًا على منتجات أخرى، ولا يؤدي إلى خلق وظائف حقيقية، ونسبة لا بأس بها من النشاط غير رسمية، فلا تستفيد الدولة من الضرائب.
ربما يكون اقتصاد الموبايل نموذجًا واضحًا، أو بالأحرى الأكثر وضوحًا، على الخلل في الاقتصاد، ولكنه ليس النموذج الوحيد لمهن تخلق رواجًا زائفًا وتأثيره سلبي على الاقتصاد الحقيقي.
وإلى اللقاء في الأسبوع القادم مع نص قصة أخرى ومهنة (حاجز).