إن المتتبع لتطورات العلاقة بين المالك والمستأجر في ضوء القوانين المتعاقبة، التي بدأت بتدخل المشرّع في هذه العلاقة منذ منتصف القرن الماضي تقريبًا، وحتى صدور القانون الأخير رقم 164 لسنة 2025، والذي أحدث تغييرًا هائلًا في هذه العلاقة لصالح الملاك على حساب المستأجرين، يلحظ أن السلطات الحاكمة للدولة المصرية، على مدار تلك الفترة الطويلة، كانت حريصة – رغم تغير النظم السياسية على مدار الخمس وسبعين عامًا الماضية – على توازن هذه العلاقة.
إلا أن ما حدث من تعديل في تلك العلاقة بهذا القانون الأخير، كان مفاجئًا وصادمًا، ليس للمستأجرين فقط، بل لكل المهتمين بالشأن الدستوري والقانوني في مصر، لما سيحدثه هذا التعديل من آثار تتعدى العلاقة بين المستأجر والمالك وتنصرف إلى المجتمع كله.
الصدمة الكبرى في هذا القانون تكمن فيما قرره من تحديد مدة سبع سنوات كحد أقصى لبقاء المستأجر في العين السكنية المؤجرة له، وخمس سنوات إذا كان يستأجر عينًا تجارية أو إدارية، عند نهايتها يُخلي بعدها المستأجر العين ويسلمها للمالك مجبرًا!.
أما الصدمة الثانية في هذا القانون، فكانت زيادة أجرة الأماكن غير السكنية زيادة باهظة إلى خمسة أضعاف مرة واحدة اعتبارًا من شهر سبتمبر من عام 2025، وزيادة الأجرة للأماكن السكنية المميزة عشرين مثلًا، وللأماكن المتوسطة والفقيرة عشرة أمثال!.
وزيادة القيم الإيجارية بهذا الشكل الباهظ والمفاجئ، لا شك سيتبعها – في أضعف آثارها الاجتماعية – زيادة في الأسعار، فمن زادت عليه القيمة الإيجارية من مستأجري الأماكن غير السكنية من مهنيين وصناع وتجار، سيزيدون بدورهم – مضطرين – أسعار خدماتهم أو سلعهم التي يبيعونها للناس.
وثمة أثر آخر لهذا القانون أشد وطأة وخطورة على المجتمع، ولكي نعيش هذا الأثر واقعيًا، أروي هنا شكوى لرجل يعول أسرة مكوّنة من زوجة وخمسة أبناء بمراحل التعليم، منهم ثلاث بنات في سن الزواج. هذا الرجل يستأجر محلًا صغيرًا بحي شعبي يمارس فيه عملًا بسيطًا في إصلاح الأجهزة الكهربائية المنزلية، يتعايش من دخله هو وأسرته، ويدفع إيجارًا شهريًا قدره 250 جنيهًا، بينما يقيم وأسرته بشقة سكنية بالقرب من المحل إيجارها الشهري 200 جنيه. وعلى هذا الحال استقر الرجل ورتّب حياته وحياة أسرته.
فجأة! يصبح هذا الرجل بين عشية وضحاها مطالبًا بأجرة شهرية قدرها – في المتوسط عن الشقة والمحل – حوالي 3 آلاف جنيه، أما الأدهى والأمر أنه بات مطالبًا بتسليم المحل للمالك خلال خمس سنوات، والشقة خلال سبع سنوات، ومغادرة الحي الشعبي الذي يعيش ويعمل به إلى مكان آخر لا يزال مجهولًا!.
لنضع أنفسنا إذن مكان هذا الرجل: أين يذهب؟
وماذا يقول لزوجته وأطفاله حين يسألونه: أين نذهب؟
إن الرجل – بدون مبالغة – منذ صدور هذا القانون أصيب بالأرق، وبات لا يغمض له جفن، ولا أبالغ حين أنقل إليكم أني حين استمعت إليه، وأنا أنظر إلى عينيه وهو يروي تلك المأساة التي تفاجأ بها، كان كأنه يرتعش، بينما تنهمر الدموع من عينيه مع كل جملة يقولها.
والحق أن الذين شرعوا هذا القانون كانوا في عجلة من أمرهم، فداسوا به على الفقراء والبسطاء بلا أدنى مشاعر إنسانية، لا لشيء سوى إرضاءً للسلطة، بعد أن تناسوا أن ثلث عدد مواطني مصر – على الأقل – من الفقراء والمعدومين، بما يُقدَّر بحوالي 35 مليون مصري ومصرية يعيشون تحت خط الفقر، وفقًا لآخر إحصاء رسمي صدر عن الجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة منذ عدة سنوات.
أكرر سؤال الرجل:
أين يذهب بأسرته ولديه بنات على وشك الزواج؟
وإلى أي مكان ستنقله الدولة؟ وأي مبلغ من المال ستطالبه بدفعه وهو بالكاد يدبّر نفقات أسرته؟
ثم هل ستوفر له محلًا آخر ليسترزق منه؟ وفي أي مكان؟ وأين سيجد زبائنه؟
وهل ستكون حياة هذا الرجل وأسرته، ومن هم مثلهم، بعد هكذا التصور الذي أرادته السلطة لمعيشتهم، حياة مستقرة؟!
بقي في الختام أن أقول بكل صراحة ومصداقية، كمحامٍ، إلى الذين يعوّلون على المحكمة الدستورية العليا في إلغاء قانون الإيجارات الجديد والقضاء بعدم دستوريته: عليهم أن يكونوا واقعيين، فشواهد سبقت تجعل من هذا دربًا من الخيال، وأمنيات كالسّراب بعيدة المنال.
الحل؟!!
لا حل يعيد الاستقرار والتوازن – الذي اختل بين الملاك والمستأجرين، بل إلى المجتمع كله – يُلغي إجبار الناس على إخلاء مساكنهم ومحال رزقهم، ويُخفض الزيادة الباهظة للقيم الإيجارية التي قررها القانون، سوى بتعديل تشريعي يصدره مجلس نواب منتخب انتخابًا صحيحًا، ويمثل أعضاؤه الشعب المصري تمثيلًا
حقيقيًا، ولهذا حديث آخر إن شاء الله.