الوظيفة الحكومية بالنسبة للبعض هي الأمان المادي والضمان الاجتماعي، لكن في مجالات قائمة على الفكر والإبداع مثل الصحافة، تتحول أحيانًا إلى قيد يلتف حول عنق الموهبة. الروتين اليومي، التعليمات الجامدة، والأوامر التي لا تحتمل نقاش، كلها عوامل تُذيب الشغف وتطفئ أي شرارة إبداع قبل أن ترى النور.
حين دخلت الصحافة من باب الوظيفة الحكومية، كنت أظن أنني أخطو خطوة نحو مساحة أكبر من الحرية. لكنني فوجئت أن الحرية التي كنت أبحث عنها تُستبدل بقيود جديدة. لم يكن من حقي أن أختار القسم الذي أكتب فيه، ولا الموضوع الذي أتناوله، ولا حتى زاوية التناول. القلم لم يعد ملكي، بل أصبح أداة في يد تعليمات مكتوبة مسبقًا. كنت أكتب لكن دون روح، أنفذ ما يُطلب مني فقط، حتى صرت أشعر أنني موظف ينجز أوراقًا لا صحفيًا يصنع رأيًا.
تجربتي ليست استثناء، بل صورة مُكررة لأزمة أعمق يعيشها الصحفيون في المؤسسات الرسمية. حين يتحول الصحفي إلى مجرد منفذ، تفقد الصحافة معناها. فبدل أن تكون مرآة للمجتمع وميدانًا لطرح الأسئلة، تتحول إلى نشرات مكررة، لا فرق فيها بين مقال وآخر سوى توقيع الكاتب. وبهذا تُقتل الصحافة الحقيقية، لأنها تقوم بالأساس على الحرية في الاختيار والقدرة على النقد.
الإبداع لا يعيش في بيئة بيروقراطية. الكاتب يحتاج إلى فضاء حر، مساحة للتجريب، فرصة لأن يخطئ ويتعلم. أما حين يخضع لكل تفصيلة صغيرة إلى أوامر إدارية، فإن الفعل الإبداعي ينكمش، ويتحول النص إلى مجرد نسخة من نصوص أخرى. في النهاية، نصبح أمام صحافة بلا طعم، وجمهور بلا ثقة، وكُتاب بلا شغف.
الصحافة ليست رفاهية، والإبداع ليس ترفًا، كلاهما جوهر لا يمكن التضحية به، وحين تختفي الحرية داخل المؤسسات، يختفي معها دور الصحافة الحقيقي فى البحث عن الحقيقة، وصناعة وعي عام حي، وإذا استمرت البيروقراطية في ابتلاع الموهبة، فلن يبقى سوى نصوص باهتة تُكتب لتُنسى.