كلنا نسعى إلى القصة الكاملة، ولكن أحيانًا لا تمنحنا الحياة سوى نصف القصة، ثم تفاجئنا بالنصف الآخر. وأخطر أنواع القصص غير الكاملة هي الأموال المخدِّرة.
نسمع كثيرًا عن الأموال الساخنة التي تدخل أي بلد لاقتناص فرص الربح السريع، ثم تخرج بسرعة أكبر.
ونعرف أيضًا الأموال القذرة، حصيلة عمليات التهريب والمخدرات وكل الجرائم.
ولكننا لا نتوقف كثيرًا عند الأموال المخدِّرة. ولا أقصد بها أرباح تجارة المخدرات، وإنما أقصد بها القروض الدولية، أو بالأحرى نوعًا معينًا من القروض لا يقلّ تأثيره عن الحشيش أو الكوكايين أو أي مخدر صناعي.
القروض المخدِّرة تهطل على دولة ما مثل المطر، فجأة تُفتح أمام اقتصاد هذه الدولة مغارة علي بابا. وكأن إشارة سرية ما قد وُجِّهت إلى المؤسسات المانحة والمقرضة والحكومات، لتسارع بإقراض هذه الدولة بحجة دعم اقتصادها المنهك والمعطش للدولار وكل العملات.
مليارات تُخدّر أعصاب الحكومات والمسؤولين، وتمنحهم إحساسًا زائفًا بالأمان والغنى.
وللقروض المخدِّرة سمات، أهمها أنها لا تأتي مرة واحدة، بل على دفعات وتدفّقات. ما إن ينتهي أثر التدفق الأول حتى يتوافر القرض الثاني والثالث والرابع… وهكذا يدخل الاقتصاد في حلقة جهنمية من القروض، التي تؤثر على فرص نموه الحقيقية، وتهدد استقراره واستقلاله معًا.
ومن سماتها أيضًا قلة – أو ندرة – الاستثمارات المباشرة، تلك التي تبني الاقتصاد الحقيقي وتوفر له دخلًا وطنيًا حقيقيًا، مستمرًا ومنفصلًا عن إرادة الآخرين.
في الغالب تنسى الحكومات، أو تتجاهل، أن تفسر: لماذا تنهمر القروض وتختفي الاستثمارات؟ لماذا يدعمك الآخرون بالسَّلف والدَّين فقط؟
بالطبع سيردّ الكثيرون بأن فرص الاستثمار غير متوافرة، ومناخ الاستثمار غير جاذب. وقد يكون كل ذلك صحيحًا، لكنه ليس السبب الحقيقي وراء ندرة الاستثمارات في مقابل كثافة القروض.
هذه القصة تكررت في أزمنة ودول وقارات، ولأسباب مختلفة، لكن الهدف واحد: السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي للدول، وتجريدها من عنصر المبادرة والاستقلال في اختيار طريقها.
ولأن قصة القروض المخدِّرة قديمة ومشهورة، فلا عذر لأي حكومة تُورِّط شعبها في قروض ترهن إرادتهم. لا عذر لحكومة لم تسمع سوى نصف القصة، لأنها لا تريد سماع القصة الكاملة.
نصف القصة أن تسمع تصريحات وردية من صندوق النقد والدائنين، أما نصفها الآخر فتسمعه من الشعب الذي يئنّ تحت سداد فوائد وأقساط الديون، ولا يجد أمامه طريقًا حقيقيًا للحصول على فرصة عمل أو تعليم أو علاج.
نصف القصة أن تستمتع بسنوات قليلة بأموال القروض، ثم تعمل طوال عمرك لسدادها.
ونحن الآن في النصف الآخر من قصة الأموال المخدِّرة.
والمقال القادم نص قصة أخرى عن الأموال المهدرجة