لم يعد الخبر ينتظر نشره على الورق، ولم تعد غرفة الأخبار هي وحدها صاحبة القرار في ما يشغل الناس.
اليوم أصبح “التريند” هو اللاعب الأهم في المشهد الإعلامي، ما كان في الماضي مؤشرًا لحركة الجمهور، تحول إلى أداة لتوجيهها، المعركة لم تعد حول من ينقل المعلومة، بل حول من يصنعها أولًا، ومن يمتلك القدرة على تحويلها إلى تريند يصنع رأيًا عامًا في لحظات.
تريند تيك توك بين ضبط الفوضى ومطاردة الحرية
خلال الأسابيع الماضية، تصدّر “تريند” القبض على صُنّاع المحتوى في تيك توك قوائم الأكثر تداولًا في مصر، بعد توقيف عدد من مشاهير المنصة بتهم تتعلق بـ”مخالفة الآداب العامة” و”غسل الأموال”.
القضية تجاوزت حدود السوشيال ميديا، وتحولت إلى موجة رأي عام شغلت الإعلام التقليدي والبرامج الحوارية، وفتحت نقاشًا واسعًا حول الحد الفاصل بين ضبط المحتوى الرقمي وحماية حرية التعبير.
ورغم أن الجدل بدا في ظاهره أخلاقيًا، إلا أنه كشف عن صراع أعمق داخل المشهد الإعلامي: من يحدد أولويات الرأي العام؟ هل ما زالت المؤسسات الصحفية والتلفزيونية تمتلك زمام القيادة، أم أن المنصات الاجتماعية أصبحت المحرك الأول للأجندة الإعلامية؟
اللجان الإلكترونية والهاشتاجات الموجّهة
التريندات لم تعد تُولد صدفة كما في السابق. بعضها ينبع من تفاعل شعبي حقيقي، وبعضها الآخر يُصنع بعناية من خلال ما يُعرف بـ”اللجان الإلكترونية”، التي تدير النقاش العام وفق أهداف سياسية أو اقتصادية أو ترفيهية.
تحول الفضاء الرقمي إلى ساحة صراع جديدة، لا تُدار بالبيانات الصحفية أو المؤتمرات، بل بخوارزميات التفاعل ومؤشرات الوصول.
التريند كأداة توجيه
يقول محمد الحارثي، خبير أمن المعلومات، إن التحرك ضد محتوى تيك توك لا يجب أن يُفهم فقط كحملة أمنية، بل كجزء من محاولة الدولة لإعادة ضبط الفضاء الرقمي الذي خرج عن السيطرة.
ويضيف أن الحل لا يكمن في الحظر الكامل، بل في تقنين المحتوى والبث المباشر وفق ضوابط مهنية وتشريعية توازن بين حرية التعبير من جهة، وحماية المجتمع من الانتهاكات الرقمية من جهة أخرى.
ويرى الحارثي أن بعض الترندات تُدار عن قصد لصناعة حالة من الإلهاء العام أو لتبديل أولويات النقاش، مؤكدًا أن الوعي الإعلامي أصبح ضرورة لا غنى عنها في مواجهة هذا النمط الجديد من التوجيه.
ويختتم قائلاً: تيك توك بات بوابة للربح غير المشروع، محذرًا من غياب الضوابط التنظيمية في آليات الدعم البنكي داخل المنصة.
الإعلام فقد استقلاله أمام التريند
من جانبه، يؤكد الدكتور ياسر عبد العزيز، الخبير الإعلامي، أن التريند منذ منتصف العقد الماضي أصبح أحد أهم العوامل التي تحدد الأجندة الإخبارية داخل المؤسسات الإعلامية الكبرى، وهو تطور طبيعي فرضته التحولات الرقمية.
ويضيف في تصريح خاص لـ موقع “القصة“، أن التريند لم يغيّر طبيعة الإعلام بوصفه ميدانًا للصراع على التأثير والمصالح، لكنه غيّر أدوات وأساليب هذا الصراع؛ فبدلًا من المقالات والصفحات الأولى، أصبحت المعركة تُدار في مساحة محدودة من الشاشة، بين هاشتاج وآخر.
ويتابع عبد العزيز أن المشكلة لا تكمن في وجود التريند نفسه، بل في التعامل معه باعتباره معيارًا للأهمية. فالتريند قد يضخّم قضايا هامشية، أو يُستخدم لتصفية حسابات سياسية واقتصادية، وهنا تبرز مسؤولية الإعلام المهني في إعادة التوازن والتمييز بين ما هو شائع وما هو مهم بالفعل.
من هاشتاج إلى مانشيت
في حادثة “فتاة الجامعة” قبل أشهر، تحوّل منشور واحد على فيسبوك إلى تريند ضخم أشعل النقاش العام، لتتبعه تغطية إعلامية موسعة ثم تحرك رسمي خلال يومين فقط.
المشهد ذاته تكرر في قضية “صناع تيك توك”، ما يكشف أن العلاقة بين السوشيال ميديا والإعلام لم تعد تبادلية، بل علاقة تبعية من طرف واحد، حيث يلهث الإعلام خلف ما تصنعه المنصات.
إلى أين يتجه المشهد؟
بين الرغبة في ضبط الفوضى الرقمية، والسعي للحفاظ على حرية التعبير، يقف الإعلام أمام اختبار جديد. فـ”حرب الترند” لم تعد منافسة على نسب المشاهدة، بل معركة على الوعي نفسه: من يصنعه؟ ومن يوجهه؟
وفي زمن تتسارع فيه الموجات الرقمية، لم يعد الخبر يُكتب بالحبر، بل بخوارزميات الانتشار.
الإعلام بين البقاء والمجاراة
يدرك الإعلام اليوم أنه إن لم يواكب سرعة المنصات فلن ينجو من العزلة، لكنه في المقابل يواجه خطر الذوبان داخل منطق “التريند”، حيث تتراجع المعايير المهنية لصالح السرعة والتفاعل.
المستقبل لا يبدو محسومًا، لكن المؤكد أن من سينتصر هو من يجيد الجمع بين عمق الصحافة وذكاء الخوارزمية، ففي زمن الضجيج، لن يبقى سوى من يعرف كيف يصنع المعنى وسط الزحام.