يعود شهر سبتمبر من كل عام حاملًا ذكرى رحيل اثنين من أبرز رموز المقاومة، وهما العقيد محمود نور الدين، قائد تنظيم “ثورة مصر”، وخالد جمال عبد الناصر، نجل الزعيم الراحل.
نور الدين وخالد عبد الناصر شكّلا مع عدد من رفاقهم، من بينهم نظمي شاهين، وحمادة شرف، وسامي فيشة، والشيخ حامد إبراهيم، تنظيمًا رفض التطبيع واستهدف المصالح الإسرائيلية والأمريكية في القاهرة.
تأسس التنظيم عام 1984، بعد أن قدّم محمود نور الدين استقالته من المخابرات العامة المصرية، فبعد عودته من عمله في لندن، وجد نفسه أمام مشهد عربي مرتبك: اتفاقيات سلام مع إسرائيل، حصار متواصل للفلسطينيين، وتراجع الدور المصري في معركة التحرر، فقرر أن يفتح جبهة مقاومة من قلب القاهرة ضد كل ما يرمز إلى الاحتلال أو حلفائه.
ومثّل خالد جمال عبد الناصر الامتداد الطبيعي لفكرة مشروع يوليو، الذي رفع شعار تحرير فلسطين. خالد، الذي عاش تجربة النفي والاتهامات، ظل شاهدًا على أن القضية الفلسطينية كانت البوصلة التي تُعرّف الوطنية المصرية عند كثيرين.
انطلق التنظيم من قناعة راسخة، وهي أن الكيان الصهيوني عدو وجودي، وأن التطبيع معه خيانة للتاريخ والدماء، واختار أهدافه بعناية من الدبلوماسيين الإسرائيليين ورموز التطبيع في مصر، في رسائل سياسية تؤكد أن مصر الشعبية لم ولن تعترف بالاحتلال، رغم توثيق مصر الرسمية على معاهدة كامب ديفيد، فمصر رغم كل الظروف السياسية، لم تنفصل يومًا عن قضية فلسطين، وهناك دومًا من يجرؤ على رفع السلاح أو الكلمة في وجه الاحتلال، وكان يعبّر عن وعي قومي يرى أن معركة فلسطين هي معركة كل العرب.
حين أُلقي القبض على أفراد التنظيم منتصف الثمانينيات، ظهر محمود نور الدين في المحكمة بصلابة نادرة. قال بوضوح إنه لم يرتكب جريمة، بل مارس واجبه الوطني في مقاومة عدو يحتل أرضًا عربية ويقتل شعبًا أعزل.
هذا الإرث يؤكد أن المقاومة لا تعرف حدودًا جغرافية ولا زمنية، بل هي روح تنتقل من جيل إلى جيل، ومن ساحة إلى أخرى، حتى تتحقق العدالة وتعود الأرض لأصحابها. ومع مرور الزمن، تحوّل ذكر خالد ونور الدين إلى رمز يذكّر الأجيال بأن الإرادة الفردية والجماعية قادرة على كسر جدار الخوف.
واليوم تتجه الأنظار إلى “أسطول الصمود المصري” الذي يستعد للانضمام إلى القافلة الدولية الهادفة لكسر الحصار البحري عن غزة. المبادرة التي انطلقت من موانئ أوروبية وعربية تحمل في جوهرها المعنى ذاته الذي حمله خالد ونور الدين قبل عقود: أن الفعل الشعبي قد يسبق الموقف الرسمي، وأن الإيمان بالعدل أقوى من حسابات التوازنات. مبادرة الأسطول تعكس الرغبة الشعبية المصرية في أن يكون لها دور مباشر في دعم غزة، تمامًا كما عبّر تنظيم “ثورة مصر” في الثمانينيات عن رفض الاستسلام للتطبيع.
الوسائل تغيّرت، من عمليات سرية تستهدف المصالح المعادية، إلى تحركات علنية تسعى لإيصال المساعدات الإنسانية وكسر الحصار عن غزة التي تتعرض للإبادة والتجويع، لكن الجوهر واحد.
بهذا المعنى، يتحوّل سبتمبر إلى مساحة للذاكرة والمستقبل معًا: ذكرى رحيل رجال دفعوا سنوات من عمرهم ثمنًا لموقفهم، وولادة أمل جديد في فعل جماعي يضع مصر مرة أخرى في قلب معركة التحرر.
بين خالد جمال عبد الناصر ومحمود نور الدين، وبين القوارب التي يسعى ناشطون مصريون لقيادتها نحو غزة، هناك جسر قوي ممتد عبر الأجيال، يؤكد أن فلسطين لم تكن يومًا قضية خارجية، بل جزءًا من الضمير الوطني المصري.