صدقت بوصلتك ورؤيتك
كنت أود الكتابة بعد أول جلسة من جلسات محاكمة زوجي د. عبد الخالق فاروق، ولكنّي آثرت الانتظار قليلًا ريثما تتضح الأمور. والآن، وبعد أربع جلسات، اثنتان منهما في محكمة أول درجة، واثنتان في محكمة الاستئناف، في شهر تقريبًا، وكأنّ المقصود هو حكم جنائي على العالم الجليل. نعم، فهو عالم من أهمّ علماء الاقتصاد، ولكنه مختلف البوصلة والرؤية والانحياز الاجتماعي، وقد كان الحكم فعلًا؛ فقد نُظرت القضية في محكمة جنح وليست المحكمة المختصّة.
في الجلسة الأولى فوجئ محامي الدكتور بوجوده في المحكمة، رغم علمنا بالإحالة وإخباري له منذ أكثر من شهر ونصف، ولكنه لم يُرسل له قرار الإحالة ولم يوقّع بالعلم عليه، بل قرأه عليه قاضي أول درجة بعد انتهاء المحاكمة. أعادوا استدعاءه لقراءة قرار الإحالة، وللأسف لم يسعفني الوقت لمعرفة هذه المحاكمة والذهاب إليه، وكان القرار التأجيل لمدة أسبوع للاطلاع.
في الجلسة الثانية ذهبنا جميعًا مبكرًا لرؤيته (هيئة الدفاع وأنا)، ولم يحضر إلّا بعد الرابعة عصرًا، ولم يُمكّن المحامون من الاطلاع، وتم الحكم بخمس سنوات.
بعدها سُلّم الحكم للنيابة دون إعلامه أو إعلامنا. وحملت همّين: الأول كيف سيكون حاله عندما يعلم وهو وحده في السجن، والثاني لو لم يعلموه كيف سأخبره أنا؟ ومرّت الأيام الثلاث لحين الزيارة ببكاء وحزن وعدم اتّزان كأنها أعوام، فالاحتمالان قاسيان. وعندما أخبرته وأنا أبكي وجدته الأقوى والأعظم والأكثر احتمالًا، بل هان عليّ رغم وجعه، واكتشفت أنّه الاحتمال الدائم لكلينا. وفي اليوم التالي ذهب للتصديق على الحكم وعمل الاستئناف. ربما أروي تفاصيلها قريبًا.
في الجلسة الأولى للاستئناف، ومع كلّ حالة الفزع الرهيبة والخوف من رجل لا يمتلك إلّا عقلًا وأوراقًا وأقلامًا، وكمّ من الحراسة والمخبرين، وجدت دعمًا لكلينا من الأصدقاء وكان شيئًا متوقّعًا.
ولكن ما جعلني أبكي تأثرًا هو مشهد الجمهور العادي في القاعة عند دخوله إلى قاعة المحكمة، فقد فوجئت بكمّ هائل من البشر الذين لا نعرفهم وليسوا أصدقاء ولم يحضروا معنا للدعم، يهرولون إليه يقبّلونه ويقبّلون جبينه ورأسه وكتفه، حتى إنّ د. عبد الجليل مصطفى، باكيًا، يقبّل يده، وآخرون لا نعرفهم، حتى إنّني كي أتمكن من الوصول إليه صِحت: (أنا مراته، أنا مراته، عاوزة أسلّم عليه). وقتها قلت: صدقت بوصلتك ورؤيتك. صدقت في كل ما قلت وما ضحّيت لأجله. صدقت في إيمانك بوطنك وأهلنا. وتم التأجيل أيضًا للاطلاع.
في جلسة الاستئناف الثانية أحضروه مبكرًا عن موعد المحاكمة بعدة ساعات.
يقف عالم الاقتصاد الجليل مرتديًا زيّ السجن داخل قفص الاتّهام مع بعض الجنائيين، ويجلس بعض الجنائيين على المقاعد الخلفية لقاعة المحاكمة، ويذهب د. عمار علي حسن كل فترة لضابط الحراسة للإتيان بكرسي له، وطبعًا يرفض الطلب. ومع طلب هيئة الدفاع علانية الجلسة بدأوا بإخراج المتواجدين بالجلسة من القاعة. وفوجئنا بعدد ضخم من السادة المحامين ارتدوا الأرواب ورفضوا الخروج، وبعض من الأشخاص تضامنًا معنا. وقتها قلت لنفسي مرة أخرى: صدقت بوصلتك ورؤيتك.
