في حي “بولاق الدكرور” حيث تتكدس القمامة على جوانب الطرقات، يظهر مشهد الأطفال الصغار وهم يغوصون في حاويات الصناديق، بحثًا عن بقايا مخلفات تمنحهم قوت يومهم. هؤلاء الأطفال لا يعيشون فقط مأساة الفقر، بل يواجهون شبح إدمان مخدرات مُخلّقة مثل “الشابو”.
تتبع “القصة” حكاية هذا المخدر، وكيفية تصنيعه في ورش بير سلم “غير مرخصة”، وتأثيراته من هلاوس واضطرابات تظهر في الطرقات العامة من أشخاص تلقي بنفسها في الأرض وتصدر حركات بهلوانية غير مفهومة ويتم ترويجها عبر عصابات تستخدم أطفال الشوارع وجامعو القمامة؛ الأمر الذي يهدد المارة والأمن العام، وأضاف الخبراء لنا بأنه يُصنع من مواد تستخدم لأدوية البرد مواد لعلاج فرط الحركة واضطربات النوم.
لا تعلم الكَانز يمثل كِنزًا
اقتربنا من أحد الأطفال، ذو قدمين الحافيتين ويدين صغيرتين، راح ينبش في حاوية القمامة كان منهمكا في فرز القمامة، ويخبئ ما كان يراه صالحًا في حقيبته البلاستيكية الكبيرة التي لا يملك سواها في ذلك العالم، لينظر إلي متأملا، مددت يدي كي أعطيه الشنطة البلاستيكية التي بحوزتي، جذب مني الشنطة بخفة ورشاقة، تفحص ما بداخلها، هتف قائلاً: “إنه كانز إنه كانز”، قلت متسائلاً: “لماذا تصيح هكذا؟!”، رد قائلا وقد ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهه البائس: “إنك لا تعلم ماذا يعني الكانز لنا يا سيدي إن “الكانز كنز” الكيلو منه بستين جنيها”.
مدمن ومعنديش حاجة أبكي عليها
يقول “علاء السيد” أحد جامعي القمامة بنبرات حزينة: “أنا وعيت على الدنيا كده بدون أم أو أب، أبويا وأمي إنفصلوا من زمان وكنت مُشتت ما بين الإثنين، تعبت نفسياً من سوء المعاملة وعدم الاستقرار، ما لاقيتش حد يحتويني غير الشارع، الشارع هو بيتي الكبير ومن هنا بدأت معايا حكاية المخدرات المُخلقة”.
وتابع: “أنا بعترف إني بتعاطى مخدرات ومش خايف، خلاص ما فيش حاجه أبكي عليها، في ظل ما كانت بتعدي عليا فترات كان نفسي أتغير وأبطل “شُرب” ولكن ما لاقيتش حد يساعدني بالعكس كنت بلاقي كل إللي حوليا بيشجعوني على ده، كان صعب إني أرجع وأبطل في بيئة كلها مخدرات وتجار بنتعامل معاهم، الموضوع بدأ معايا من سنتين لما طلب مني أحد تجار الخردة، إللي ببيع لهم الشغل إني أروح لمكان هستلم حاجة من حد واسلمها للتاجر كنت رايح بحسن نية ولكن اكتشفت الملعوب، ومن ساعتها قدمي لم تفارق هذا المكان”.
نسب التعاطي
تُشير الإحصائيات الصادرة عن صندوق مكافحة الإدمان والتعاطي إن نسبة التعاطي في مصر تقدر بـ 5.6 % من إجمالي السكان تقريبًا.
كما بلغت نسبة تعاطي (الحشيش) 3.9 ٪، الأفيونات (الترامادول) 2 ٪ (منها الترامادول 1.7 ٪). كما سجلت نسب تعاطي المهدئات والمنومات حوالي 0.2 ٪، وتعاطي (المخدرات المخلَّقة مثل الاستروكس) كذلك 0.2 ٪.
طريقة التصنيع
تواصلنا مع صيدلي تحفظنا عن ذكر اسمه، ليخبرنا بأن المخدرات المخلقة لها أنواع عديدة مثل “الشابو أو الآيس أو الميث أو الكريستال أو السبيد” وكلها مسميات لمخدر واحد هو الميثامفيتامين وتندرج تحت فئة المخدرات المصنعة أو المخلقة، وأهم أنواعها الأمفيتامين والميثامفيتامين والإكستاسي.
وأضاف لـ “القصة”: يتم تصنيع الشبو من مادة الإفيدرين والسودو إفيدرين، وهى نفس المواد المستخدمة في تصنيع أدوية البرد، على عكس الاستخدام الطبي والاستخدام الطبي المرخص لمادة الأمفتامين التي تستخدم في علاج اضطراب فرط الحركة واضطرابات النوم ADHD.
واوعن أسباب انتشاره، أكد الصيدلي أنه بسبب رُخص سعره وسهولة تصنيعه؛ حيث يتم تصنيعه في معامل صغيرة، والمواد الأولية التي تدخل في تصنيعه متوفرة.
المخدرات المُخلقة سلاح فتاك في وجه البراءة
المُلفت هنا كيف اصبح هؤلاء الأبرياء صيدًا سهل المنال لتلك السموم الفتاكة التي تهدد بقائهم على قيد الحياة، ولنفترض أنهم بقوا على قيد الحياة، ما مصيرهم في المستقبل القريب بالطبع سيخرج لنا “مسوخ” على هيئة بشرية، مما سينعكس سلبًا على مجتمع يعاني في الوقت الراهن من مشاكل أخلاقية واجتماعية لا حصر لها، رصدنا خلال جولات ميدانية كيف يتعامل الأطفال مع أكياس بلاستيكية تحتوي على مواد مجهولة المصدر، بعضها يستخدمه التجار لترويج المخدرات المخلقة الرخيصة. هذه المواد لا تَمنح الأطفال سوى هروب لحظي من قسوة الواقع، ثم تعيدهم أسرى لدوامة من الإدمان والاستغلال من قبل عصابات الكيف.
الأطفال أداة مساعدة للعصابات
في ظل غياب من يحميهم، أصبح هؤلاء الأبرياء “لقمة سائغة” في فم تلك “المسوخ” التي لا ترحم، وكأن الأقدار ساقتهم إلى هذا الطريق المظلم الذي لا نهاية له، وبلا تردد أصبحوا في قائمة “الزبائن المميزين” لتلك العصابات، وذلك ليس لأنهم مجرد مصدر سهل لجني الأموال، ولكن هناك هدف آخر أدهى وهو تسخير هؤلاء الأطفال لتيسير تلك التجارة، وذلك لأنهم أبعد ما يكون عن الشبهات، وذلك يعني أننا بصدد أجيالا جديدة مزدوجة ليسوا فقط من المتعاطين للمخدرات ولكن تجار مخدرات محنكين أيضاً، وتلك كارثة إجتماعية وأخلاقية بجميع المقاييس ستعاني منها مجتمعاتنا لعقود طويلة.
الأزمة تتفاقم
في سياق متصل أوضحت “بسمة سليم” خبيرة علم النفس والاجتماع، إن ما يحدث من عمليات تخليق للمخدرات هو بمثابة ” استهداف ” متعمد للقضاء على عصب الوطن المتمثل في أبنائه، كنا في السابق نُسلط الضوء على شرائح معينة من المجتمع، أما الآن تطور الأمر ليشمل الأطفال وهذا يدق ناقوس الخطر.
وأكدت “بسمة”: أن هؤلاء الأبرياء بمثابة فرائس سهلة المنال لتلك العصابات الإجرامية في تيسير أعمالهم المشبوهة، وذلك على اعتبارهم مجهولي الهوية بالنسبة لأجهزة الشرطة، والأدهى من ذلك إن تلك العصابات تدرس جيداً سيكولوجية الشرطة لأنها تعلم حتى وإن تم ضبط أحد الأطفال فإن العقوبة ستكون هشة على اعتبارهم أحداث تحت السن.
كارثة مجتمعية تحتاج لتوحيد الجهود
وأضافت إن تعاطي المخدرات المُخلقة في تلك المرحلة العمرية هو كارثة بجميع المقاييس، إنها بمثابة سموم تنتشر في جسد المتعاطي مما يُحدث أضرارًا جسيمة في كفاءة الأنشطة العضوية، مما يعني موت بالبطئ.
ونوهت الخبيرة النفسية، إلى أن تلك العصابات تُقدم إغراءات لهؤلاء الأطفال لتيسير تلك العمليات، سواء عن طريق المقابل المادي أو الحصول على الطعام أو الحصول على الجرعة مجانًا في كل مرة يقوموا بالمهمة بنجاح.
وشددت على ضرورة تضافر جهود المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية ووزارة التضامن الاجتماعي، وعمل حملة توعية تُخاطب الأطفال في تلك الفئة العمرية.
ما بين المأساة والمسؤولية والصمت
هذه ليست مجرد حكاية أطفال فقراء، بل مأساة أجيال تضيع بين القمامة والمخدرات، أجيالا على حافة الهاوية لم يجدوا من يحتوي معاناتهم ومن يسمعهم.
التقرير يكشف فراغًا في المسؤولية، وصمتًا يُنذر، ويترك الطفولة ضحية بين يدي الإهمال والاستغلال، وفي النهاية نحن أمام كارثة اجتماعية وإنسانية وأخلاقية إن لم ننتبه.