في مشهد يعكس تحولًا جذريًا في مسار الاقتصاد المصري، سجل ميزان المدفوعات عجزًا كليًا بلغ 2.1 مليار دولار خلال السنة المالية 2024/2025، بعد أن كان قد حقق فائضًا استثنائيًا قدره 9.7 مليار دولار في العام السابق، وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري.
ورغم أن العجز يبدو للوهلة الأولى تراجعًا، فإن قراءة أكثر عمقًا تكشف أن ما حدث هو إعادة هيكلة فعلية في علاقة مصر بالاقتصاد العالمي، وانتقال تدريجي من مرحلة “الاعتماد على التدفقات الطارئة” إلى مرحلة الإصلاح المستدام.
بيانات المركزي
بيانات المركزي تشير إلى أن العجز في حساب المعاملات الجارية انخفض بنسبة 25.9% ليصل إلى نحو 15.4 مليار دولار مقابل 20.8 مليارًا في السنة السابقة، وهو تحسن ملموس يعكس تغيرًا في سلوك الاقتصاد الخارجي المصري.
ويرجع هذا التراجع في الأساس إلى الأداء القوي خلال النصف الثاني من السنة المالية (يناير–يونيو 2025)، حيث هبط العجز الجاري بنسبة تقارب 60% مقارنة بنفس الفترة من العام السابق.
كما أن التحويلات المالية من المصريين بالخارج كانت العامل الأبرز في هذا التحسن، إذ قفزت بنسبة 55.3%، تزامنًا مع استقرار سعر الصرف وتوسع قنوات التحويل الرسمية. كما شهد الميزان الخدمي زيادة في الفائض بنسبة 49.6%، مدفوعًا بانتعاش السياحة وارتفاع الإيرادات بنسبة 21%
جذب مزيد من الاستثمارات
ورغم الضغوط الخارجية، تمكنت مصر من جذب صافي تدفقات استثمارية للداخل بلغت 5.5 مليار دولار لتأسيس شركات جديدة وزيادة رؤوس أموال القائم منها.
ويشير اقتصاديون إلى أن هذا الرقم وإن بدا متواضعًا مقارنة بفترات سابقة يُظهر عودة الثقة تدريجيًا في السوق المصري بعد فترة من التذبذب، خاصة مع التوسع في المناطق الاقتصادية الخاصة والمشروعات المشتركة.
كما انخفض عجز ميزان دخل الاستثمار بنسبة 6.9% ليسجل 15.8 مليار دولار، نتيجة ارتفاع متحصلات الاستثمار بنحو 50%، وهو ما يعكس تحسن أرباح الشركات المحلية العاملة في الأسواق الخارجية.
التحول الهادئ
أحد أكثر المؤشرات إيجابية كان قفزة الصادرات السلعية غير البترولية بنسبة 38.9%، وهو ما ساهم في تقليص عجز الميزان التجاري السلعي غير البترولي.
ويصف خبراء هذا التطور بأنه “التحول الهادئ” الذي لم يُسلّط عليه الضوء الكافي، إذ يشير إلى نقلة نوعية في بنية الاقتصاد الإنتاجي، مع توسع في قطاعات الصناعات الغذائية والكيماوية والهندسية
أسباب تحول ميزان المدفوعات من فائض إلى عجز
في هذا السياق قالت الدكتورة حنان رمسيس، خبيرة الاقتصادية والمصرفية، في تصريحات خاصة لموقع “القصة”، مرت الدولة بظروف اقتصادية صعبة مثل توقف قناة السويس بسبب هجمات الحوثيين وانخفاض دخل السياحة في البحر الأحمر، مما أثر على تحويل ميزان المدفوعات من فائض إلى عجز.
يعود العجز بشكل أساسي إلى استهلاك فوائد وأقساط الدين الجزء الأكبر من الموازنة العامة للدولة بعد حسابات الجهاز المركزي للمحاسبات، وكذلك الاقتراض من صندوق النقد الدولي.
تراجع العجز في الحساب الجاري
كما أشارت “رمسيس”، إلى محاولات الدولة الاتجاه نحو أوجه استثمارية أخرى والابتعاد عن الاقتراض من خلال مشاريع مشتركة مع دول عربية، واستغلال المنافذ الاقتصادية والمحاور المختلفة، وتوطين الصناعات، وتحويل المديونيات إلى مشروعات وشراكات مع دول خارجية، وبيع الأصول، وطرح مشروعات في البورصة، والتعاون مع كيانات اقتصادية غير صندوق النقد الدولي لتجنب العجز الدائم في الموازنة.للحفاظ على التحسن وعدم العودة للعجز.
استراتيجيات الحد من العجز
كما شَددت على ضرورة التوقف بالكامل عن تمويل المشروعات طويلة الأجل بقروض قصيرة الأجل، والتوقف عن الاقتراض من صندوق النقد الدولي لأن خططه تؤدي إلى أزمات اجتماعية واقتصادية وارتفاع أسعار السلع نتيجة مطالبة الصندوق بأسعار عالمية لا تتناسب مع الدخول المحلية.
كما يجب التعاون في استغلال المناطق الاقتصادية الخاصة، وزيادة توطين الصناعات، وفتح المصانع المغلقة.
كما يرى المحللون أن التحول من فائض إلى عجز ليس بالضرورة مؤشرًا سلبيًا، بل علامة على إعادة التوازن الطبيعي بعد عام استثنائي شهد تدفقات استثمارية ضخمة مرتبطة بصفقة رأس الحكمة.
فالفائض السابق كان “مؤقتًا ومشحونًا بالصفقات”، أما نتائج العام الحالي فتعكس “حركة اقتصادية أكثر واقعية”، قائمة على تحسن في الصادرات، ونمو في التحويلات، وتراجع في المدفوعات الخارجية.