في زمنٍ باتت فيه الحروب لا تُشن بالسلاح وحده، بل بالأفكار، تصبح معركة الهوية أخطر من كل معركة عسكرية، فالحروب الحديثة — كما يصفها علماء الآثار — لم تعد مجرد صراع على الأرض، بل صراع على الذاكرة والانتماء.
ومن هنا، يأتي افتتاح المتحف المصري الكبير بوصفه حدثًا ثقافيًا وحضاريًا يتجاوز فكرة العرض الأثري، ليصبح بيانًا مصريًا جديدًا يؤكد أن الحضارة لا تموت، وأن الهوية لا تُمحى.
متحف يعيد بناء الإنسان قبل أن يعرض الحجر
يقول الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، في تصريحات خاص لـموقع “القصة”، إن المتحف المصري الكبير يأتي في لحظة فارقة تشهد فيها المجتمعات ما يُعرف بـ”حروب الهوية”، لم تعد الحروب في عصرنا الحديث عسكرية فقط، بل أصبحت حروبًا على الهوية والدين والعادات واللغة”، يقول شاكر، مؤكدًا أن هناك محاولات مستمرة لتفريغ الأجيال من جذورها، “يريدون شبابًا بلا لغة، بلا دين، بلا انتماء، يعيشون داخل أسوار مغلقة اسمها الكمبوندات”.
وأضاف شاكر، أن المتحف المصري الكبير يأتي ليرد على هذا التحدي الثقافي بأسلوب غير مباشر، إذ يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، فيمنح الزائر تجربة فكرية قبل أن تكون بصرية:“الزائر الذي يدخل قاعات المتحف — سواء كان من بولاق أو من كمبوند فاخر — سيخرج وهو يدرك أنه امتداد لحضارة عظيمة سيعرف أن أجداده صنعوا التاريخ، وأنه ابن لهذه الأرض”.
وأشار خبير الآثار، إلى أن المتحف صُمم ليحاكي تطور المجتمع المصري منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر اليوناني الروماني، عبر 12 قاعة عرض رئيسية، منها قاعة مخصصة للمعتقدات، وأخرى للحياة اليومية، وثالثة للمجتمع، حتى لو لم يحفظ الزائر كل التفاصيل، سيخرج بيقين واحد: أن هذه الحضارة التي وُلد منها، ما زالت قادرة على أن تبعث فيه الإيمان والانتماء.
بين الاقتصاد والثقافة.. استثمار في الوعي
وأكد شاكر، أن تقييم المتحف لا يجب أن يُقاس بالأرباح المادية المباشرة، موضحًا أن من يحسب تكلفة المشروع — التي تتجاوز المليار ومئتي مليون دولار — وفق أسعار التذاكر فقط “يظلم الفكرة”، الثقافة لا تُقاس بالمال اليابان مثلًا لا تبني متاحف لتربح، بل لتصنع إنسانًا يعرف تاريخه المتحف المصري الكبير سيعوض التكلفة من خلال الفعاليات الكبرى، والمؤتمرات، والعروض الدولية، فضلًا عن العائد السياحي غير المباشر”.
وأضاف:“المتحف ليس مجرد قاعات عرض؛ بل منظومة متكاملة تضم قاعات مؤتمرات، وفندقًا، وساحات للحفلات، ما يجعل منه مركزًا ثقافيًا واقتصاديًا متكاملًا.”
متحف القرن.. هدية مصر للعالم
من جانبه، وصف الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، في تصريح خاص لـموقع “القصة”، المتحف المصري الكبير بأنه “أعظم هدية من مصر للعالم في القرن الحادي والعشرين”، مؤكدًا أنه المشروع الثقافي الأضخم في التاريخ الحديث، بجانب أنه يقام المتحف على مساحة 117 فدانًا، أي ما يعادل نصف مليون متر مربع، ويضم ما يقرب من 100 ألف قطعة أثرية تمثل مسيرة الحضارة المصرية منذ ما قبل التاريخ وحتى العصر اليوناني الروماني.
وأشار وزيري إلى أن المتحف سيضم ولأول مرة مجموعة الملك توت عنخ آمون كاملة — أكثر من 5 آلاف قطعة — تُعرض في قاعتين مخصصتين، إحداهما لأدوات الحياة اليومية، والأخرى لعالمه الآخر وما ارتبط بعقيدته عن الخلود؛ هذا إنجاز وإعجاز في الوقت نفسه، لأن مجموعة توت كانت موزعة بين متاحف ومخازن مختلفة لعقود طويلة، والآن تُعرض كاملة في مكان واحد يليق بعظمة الحضارة المصرية.
حضور ملكي ورسالة دبلوماسية
وعن الشخصيات المنتظر حضورها افتتاح المتحف، أكد وزيري أن الحدث سيكون “عرسًا عالميًا جديدًا على أرض مصر”، على غرار موكب المومياوات الملكية الذي أبهر العالم، وفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي وجه دعوات لعدد من قادة وزعماء وملوك وملكات ورؤساء وزراء العالم، ليكونوا جزءًا من هذا الحدث الذي يمثل رسالة من مصر إلى الإنسانية.
وأوضح أن الحفل سيعكس قوة مصر الناعمة، مشيرًا إلى أن الافتتاح لن يكون عرضًا أثريًا فقط، بل حدثًا فنيًا وثقافيًا يوظف التكنولوجيا الحديثة في تقديم الحضارة المصرية بطرق مبتكرة، قائلاً: نحن لا نعرض تماثيل فحسب، بل نحكي قصة حضارة كاملة، من الإنسان الأول حتى الدولة الحديثة، بأسلوب مبهر يجعل الزائر يعيش تجربة تتجاوز حدود الزمن.
من معمل الترميم إلى مراكب الشمس
يضم المتحف — بحسب وزيري — أكبر مركز ترميم في الشرق الأوسط، إضافة إلى متحف داخلي مخصص لمراكب الملك خوفو، الذي يُعد من أهم الآثار العضوية في العالم، والمتحف يحتوي على مركب خوفو الأول بطول 43 مترًا، والمركب الثاني الذي نُقل في نحو 1800 قطعة ويُعاد تركيبه حاليًا داخل قاعة عرض مهيأة بأحدث التقنيات.
كما يضم المتحف ما يُعرف بـ”الجراند ستير” أو السلم العظيم، الذي تزينه عشرات التماثيل الملكية العملاقة، ومسلة معلقة تُعد الأولى من نوعها في العالم، تُتيح للزائر رؤية النقوش من أسفلها في مشهد بصري فريد.
هوية تتجدد.. وحضارة لا تموت
يرى الدكتور مجدي شاكر أن المتحف لا يعرض آثارًا صامتة، بل يُعيد إنتاج الوعي ويمنح الأجيال الجديدة فرصة للانتماء الحقيقي، حين يقف طفل صغير أمام تمثال رمسيس الثاني، ويعرف أن هذا الملك خاض 14 حملة ولم يُهزم، سيُدرك أن أجداده صنعوا المستحيل، وأن عليه أن يواصل المسيرة.
ويتابع: “المتحف في جوهره مشروع لبناء الإنسان المصري، قبل أن يكون بناءً من الحجر. إنه يربطنا بجذورنا، في وقت يسعى فيه العالم لطمس الهويات وإذابة الفوارق. المتحف هو الرد الأبلغ على تلك الحرب الناعمة”.
المتحف كرسالة للعالم
بين جدران المتحف المصري الكبير، لا تُعرض القطع الأثرية فحسب، بل تُعرض روح مصر، فكل تمثال، وكل نقش، وكل مركب خشبي يحمل حكاية أمةٍ قاومت النسيان.
وإذا كانت الأهرامات قد أعلنت عن ميلاد الحضارة قبل آلاف السنين، فإن المتحف المصري الكبير يعلن اليوم ولادة وعي جديد، يعيد وصل المصريين بجذورهم، ويقول للعالم كله: “هنا بدأت الحكاية، وهنا لا تزال مستمرة”.
