رغم ضبابية المشهد السياسي والعسكري في غزة، بدأت التسريبات تتحدث عن خطة ضخمة لإعادة إعمار القطاع بعد إتمام صفقة تبادل الأسرى، الخطة التي يُقال إنها ستتم تحت إشراف الأمم المتحدة والبنك الدولي وبتمويل من الولايات المتحدة ودول الخليج وتركيا ومصر، تفتح بابًا واسعًا للأسئلة حول مستقبل الإعمار، والجهات المستفيدة، والدور المصري المنتظر في إعادة بناء ما دمرته الحرب.
حتى اللحظة، والتي لم يُعقد فيها أي مؤتمر رسمي لإعادة إعمار القطاع يقول الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، إن “كل ما يُطرح حتى الآن تقديرات أولية، فغزة تحتاج إلى ما بين ستين إلى تسعين مليار دولار لإعادة الإعمار، وهذه الأرقام تبقى تقديرية حتى يُعقد مؤتمر دولي يجمع التمويلات ويحدد آليات التنفيذ”.
ويضيف: “القاهرة ستدعو إلى مؤتمر دولي بمجرد توقف الحرب بشكل كامل، ومن خلاله ستتم مناقشة آليات إعادة إعمار القطاع”.
حديث ليس جديدا
ويرى “الرقب” أن الأولوية الآن ليست في الأموال ولا في الخطط الاقتصادية، بل في وقف الحرب، قائلاً: “ما يهم الآن هو أن تتوقف آلة القتل الإسرائيلية، الاحتلال يتحكم في المنافذ ويمنع إدخال المعدات، وإذا لم يتوقف العدوان فلن تكون هناك إعادة إعمار حتى رفع الأنقاض في مدينة غزة وحدها يحتاج إلى شهور طويلة قبل أن نبدأ أي بناء حقيقي.”
وبحسب “الرقب”، فإن الحديث عن خطة إعمار غزة ليس جديدًا، إذ “شكل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجلسًا أعلى للسلام ليضع رؤية لإعادة إعمار القطاع”، مؤكدًا أن “ما يُطرح الآن هو إعادة تدوير لتلك الأفكار القديمة”.
ويضيف أن المرحلة المقبلة “قد تشهد تشكيل لجنة تكنوقراط فلسطينية لإدارة غزة، على أن تكون السلطة في المشهد لتنسيق العملية، وليس طرفًا معيقًا لها”.
أما من الناحية الميدانية، فيرى “الرقب” أن الاحتلال الإسرائيلي هو العامل الحاسم في نجاح أو فشل أي خطة إعمار، مشيرًا إلى أن “كل شيء مرهون بمدى سماح إسرائيل بإدخال المعدات، سواء من مصر أو تركيا التي وعدت بالمشاركة في رفع الأنقاض”.
ويختتم حديثه قائلاً: “رفع الركام وحده مشروع ضخم، وما زال الطريق طويلاً، لكن الأمل قائم في أن يُعاد الأمل لأهل غزة من جديد.”
مشروع عقاري أم رؤية للسلام؟
من جانبه، يقول المستشار أحمد خزيم، الخبير الاقتصادي: “خطة الإعمار الحالية ليست مشروعًا إنسانيًا بحتًا، بل رؤية اقتصادية سياسية تُدار بعقلية المطورين العقاريين”.
“خزيم” يضيف: “الذي يدير الخطة اليوم هو ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، وهما مطوران عقاريان لا دبلوماسيان، ترامب نفسه أعلن أن تمويل الإعمار سيكون من الدول العربية الغنية جدًا، وأن المشروع سيتخذ واجهة بحرية مهمة، شبيهة بما يُنفذ في رأس الحكمة بمصر.”
“ربما تصل تكلفة الإعمار إلى سبعين مليار دولار، ويُدار المشروع بمشاركة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ضمن كونسورتيوم اقتصادي، عبر صندوق استثماري يضم مساهمات من السعودية والإمارات وقطر ودول أخرى”، يقول “خزيم”.
ويكمل: “الفكرة تقوم على إنشاء واجهة بحرية عالية التطوير على البحر المتوسط، مع استغلال ثروات غزة البحرية من الغاز والنفط”.
وبحسب “خزيم”، تهدف الخطة إلى تحويل غزة إلى منطقة تنمية تجارية وسياحية تُدار من قبل “إدارة السلام” برئاسة ترامب، وتُبنى على نموذج يوفر الأمن لإسرائيل ويمنح الفلسطينيين مساكن مرتفعة دون تهجير مباشر، لكنه في جوهره “مشروع استثماري يخدم مصالح المطورين العقاريين أكثر مما يخدم السكان”.
ارتفاعات مرتبقة بأسعار مواد البناء في مصر
ويتابع قائلا: “مصر ستكون المعبر الرئيسي لدخول الأسمنت ومواد البناء، وستستفيد اقتصاديًا من تصدير كميات ضخمة من مواد البناء، لكن هذا سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار داخليًا على المواطنين، العوائق الحقيقية ليست اقتصادية بل جيوسياسية، لأن المنطقة كلها على صفيح ساخن، مع تصاعد الحديث عن ضربات محتملة لإيران وتوترات إقليمية مستمرة”.
ويرى أن المشروع، رغم ضخامته، “لن ينجح” لأسباب تتعلق بطبيعة المنطقة والقضية الفلسطينية ذاتها، مضيفًا:“هذا مشروع يُدار في منطقة عليها نزاع، لها أصحاب وأهل، هي إعادة تدوير لصفقة القرن، تهدف إلى خلق منطقة صناعية وتنموية تمتد من العريش إلى رفح، لكن تطبيقها على الأرض ليس سهلًا، هناك مقاومة فلسطينية حقيقية لأي شكل من أشكال إعادة التوطين أو الإخراج من غزة، ومصر أيضًا ترفض ذلك تمامًا.”
ويختم الخبير الاقتصادي حديثه قائلاً: “من الناحية الاقتصادية البحتة، ربما تستفيد مصر من تصدير مواد البناء في حال انطلاق الإعمار، لكن من الناحية السياسية فالأمر أكثر تعقيدًا نحن نتحدث عن مشروع ضخم في منطقة متوترة، تديره عقول استثمارية أكثر منها إنسانية، في وقت لم تتوقف فيه الحرب بعد.”
بين تقديرات تتراوح بين ستين وتسعين مليار دولار، ورؤى اقتصادية تتقاطع مع مصالح سياسية، تبقى إعادة إعمار غزة معركة جديدة لا تقل تعقيدًا عن الحرب نفسها، فالمعادلة لا تقتصر على المال والمشروعات، بل تشمل الأمن والسيادة والمستقبل السياسي للقضية الفلسطينية.
ومع استمرار العدوان، يظل ما قاله الدكتور أيمن الرقب هو العنوان الأصدق للمشهد: “لن تُبنى غزة بالحجارة قبل أن يتوقف القصف، ولن تُعاد الحياة قبل أن تُوقف الحرب.”