حكايات من دفتر ملك الوثائق.. هل كان هيكل صحفيًّا للسلطة؟
في سبتمبر من كل عام تحل ذكرى ميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل، أشهر الصحفيين العرب في القرن العشرين، وأحد أبرز الكُتّاب المؤثرين في السياسة المصرية على مدى عدة عقود.
والمشكلة الكبرى في تناول حياة هيكل ـ كما يقول صلاح عيسى ـ أن الأضواء كانت مسلطة عليه بشكل يكاد يُعمي الأبصار، ويحول دون تناول مسيرته بموضوعية، فقد كان ملء السمع والبصر، لا يغادر خشبة المسرح، ولا تخطئه أعين المتفرجين، ولا تخلو غرفة مكتبه من الزائرين: ملوك ورؤساء جمهوريات وسياسيين وكتّاب ومفكرين ومناضلين. في وقت كان يوصف بأنه أقوى رجل في مصر، بل في الشرق الأوسط كله، وهذا الوهج الكبير حوله جعل أكثر الفصول إضاءة في عمره أكثرها غموضًا وأحفلها بالظلال ومناطق العتمة.
ثلاثة وتسعون عامًا هي عمر هيكل، رحلة طويلة، ومسيرة حافلة امتدت لعدة عقود ظل خلالها محمد حسنين هيكل متربعًا على عرش صاحبة الجلالة، والكاتب السياسي الأشهر خلال القرن العشرين بلا منازع.
البعض يعتبره “كاتب السلطة”، وآخرون يسمونه “الصحفي الأوحد”، لكن الوصف الأدق هو “الأستاذ”.. تلك الأستاذية التي جعلته واحدًا من أهم أحد عشر صحفيًا على مستوى العالم.
امتلك أسلوبًا أدبيًا متينًا ظهر من خلال مخزونه اللغوي الواسع، سواء في الكتابة أو الحديث، مما يعكس ثقافته العميقة ومعرفته الموسوعية، ليس في المجال السياسي فقط، وإنما في الأدب والفكر أيضًا. فلم يكتب كتابًا أو مقالًا إلا وتضمن بيتًا من الشعر، أو حكمة لفيلسوف، أو كلمة لمفكر.
وُلد في قرية باسوس، إحدى قرى محافظة القليوبية، وكان والده يتمنى أن يصبح طبيبًا، لكن الأقدار اختارت له طريقًا آخر.
التحق هيكل بمدرسة التجارة المتوسطة، لكنه عمل على تطوير نفسه لتحقيق رغبته في العمل بالصحافة، فالتحق بالقسم الأدبي في الجامعة الأمريكية، وتعرف خلال تلك الفترة على الصحفي سكوت واطسون بجريدة الإيجبشان جازيت (أول صحيفة مصرية تصدر بالإنجليزية).
ونجح واطسون في إلحاقه بالجريدة عام 1942 كصحفي تحت التمرين بقسم المحليات، ثم بقسم الحوادث، وكان عمره آنذاك 19 عامًا، في خضم الحرب العالمية الثانية.
فازداد انتشار الجريدة بفضل تغطيتها أخبار الحرب، وكان دور هيكل ترجمة ما تنقله وسائل الإعلام الأجنبية عنها.
وقع الاختيار على هيكل لتغطية معارك العلمين، ثم سافر إلى مالطا، وبعدها إلى باريس حيث التقى السيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة روز اليوسف، التي قررت ضمه إلى مجلتها تقديرًا لموهبته الفذة.
وفي عام 1944 التحق بـروز اليوسف، وهناك التقى محمد التابعي لينتقل معه إلى مجلة آخر ساعة تحت رئاسة التوأم علي ومصطفى أمين.
في آخر ساعة قدّم هيكل أبرع فنونه الصحفية، حيث أنجز العديد من الخبطات الصحفية المميزة: تقارير مصورة عن “خط الصعيد”، تقرير عن وباء الكوليرا عام 1947، وتحقيق عن قرية القرين التي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها.
ثم انتقل إلى جريدة أخبار اليوم حيث نشر انفرادات عن حرب فلسطين، وثورة محمد مصدق في إيران، والصراع في تركيا، واغتيال الملك عبد الله في القدس، إلى جانب خبطات صحفية كبيرة أخرى.
وفي 18 يونيو 1952 فوجئ قراء آخر ساعة بمقال علي أمين ـ رئيس التحرير حينها ـ الذي خصص عموده اليومي للحديث عن هيكل، مختتمًا إياه بإعلان تقديمه رئيسًا لتحرير المجلة، ولم يكن قد تجاوز التاسعة والعشرين.
هيكل وعبد الناصر
بعد قيام ثورة يوليو 1952 كان هيكل أكثر الصحفيين قربًا من الرئيس جمال عبد الناصر، ووصلت العلاقة بينهما إلى درجة الصداقة، الأمر الذي جعله يحتل مكانة كبيرة مكنته من الاقتراب من دوائر صنع القرار في مصر والعالم العربي. وازدادت العلاقة قربًا ليصبح بعدها المتحدث باسم حركة الضباط الأحرار.
وفي عام 1956 ـ 1957 عرض مجلس إدارة الأهرام على هيكل رئاسة التحرير ورئاسة مجلس الإدارة، لكنه اعتذر في المرة الأولى، ثم وافق في الثانية.
وظل رئيسًا لتحرير الأهرام حتى عام 1974 لمدة 17 عامًا، طوّر خلالها الصحيفة مهنيًا وتحريريًا حتى أصبحت الأبرز في العالم العربي، ووصلت إلى أن تكون ضمن الصحف العشرة الأولى عالميًا.
ظهر أول مقال له في الأهرام بعنوان بصراحة في أغسطس 1957، وكان آخر مقال عام 1974 بعنوان الظلال والبريق، وفيه يؤكد أن السياسة الأمريكية لم تتغير في المنطقة إلا إذا غيّرنا نحن طريقة تعاملنا معها.
رفض هيكل الوزارة أكثر من مرة مفضّلًا البقاء رئيسًا لتحرير الأهرام، بسبب عشقه للصحافة. لكنه اضطر لقبول منصب وزير الإرشاد في نهاية عهد عبد الناصر، وحين اشترط عدم الجمع بين الوزارة والأهرام تركها بمجرد وفاة عبد الناصر. ورفض بعد ذلك أي منصب مهما علا شأنه ما دام سيبعده عن الأهرام.
هيكل في الأهرام
امتد تاريخ هيكل في الأهرام لأكثر من 17 عامًا ـ كما يقول رجب البنا في كتابه هيكل بين الصحافة والسياسة ـ بدأ عام 1957 حتى أول فبراير 1974. كتب خلالها مقاله الأسبوعي بصراحة بانتظام، فكان أول ما يقرأه السياسيون وعامة القراء في مصر والعالم العربي صباح كل جمعة، ويسمعه المستمعون في أنحاء العالم العربي عبر إذاعة القاهرة.
قام بتطوير التحقيقات الصحفية، فخصص لها صفحة كاملة متميزة، وتفوقت فيها مجموعة كبيرة من أفضل شباب الصحفيين الذين عيّنهم هيكل. اختار صلاح هلال، الذي عمل معه مديرًا لتحرير آخر ساعة، ليكون رئيسًا لقسم التحقيقات. وكان هلال صاحب رؤية سياسية وصحفية نادرة، وله قلم رشيق مؤثر بكلمات قليلة.
كما طوّر قسم الأخبار واختار لرئاسته ممدوح طه، وهو شخصية نادرة باتصالاته الواسعة مع الوزراء وكبار المسئولين، وبحساسيته العجيبة تجاه الخبر وقدرته على التقاطه من كلمة عابرة أو ملاحظة صغيرة.
وعمل أيضًا على تحديث الإخراج الصحفي، فاختار توفيق بحري ليرأس القسم، فأعاد تصميم الصفحات من الشكل التقليدي القديم إلى أسلوب عصري جعل الأهرام تتحول بالفعل إلى صحيفة عالمية. كما أنشأ أرشيف الأهرام.
ولأول مرة في تاريخ مصر أنشأ مركزًا للدراسات السياسية والاستراتيجية في صحيفة. وكان بداية التغيير أن يتحول الطابع الإخباري للأهرام ليصبح سبّاقًا بالخبر، مع تقديمه عبر تحقيق يبرز كل أبعاده.
في عهده أيضًا تغيّرت مقالات الرأي، إذ كانت قبل ذلك مجرد انطباعات عامة مرسلة. أما الجديد الذي أدخله هيكل فكان المقال التحليلي العميق للأحداث، يكتبه كبار المتخصصين فقط. ولهذا اجتذب نخبة من أبرز الأقلام مثل لطفي الخولي ومحمد سيد أحمد، وأصبحت صفحة الرأي من أهم صفحات الأهرام.
ويقول هيكل في كتابه بين الصحافة والسياسة:
“لقد كنت أنا الذي تعاقدت للأهرام مع صفوة من أقلام مصر وأحسن كُتّابها: توفيق الحكيم، الدكتور حسين فوزي، زكي نجيب محمود، صلاح جاهين، صلاح طاهر، عائشة عبد الرحمن، كمال الملاخ، لويس عوض، محمد يوسف، ومعه مساعداه إميل كرم وأنطوان ألبير، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ويوسف فرنسيس”.
ملك الوثائق
كانت مهارة هيكل المتفردة هي الوصول إلى أدق مصادر المعلومات والوثائق الأصلية، تلك كانت ميزته الأهم، التي أهلته ليحتل تلك المكانة المرموقة، وكانت سلاحه في كسب جميع معاركه.
اعتمد دائمًا على المعلومة الموثقة وحرص على تقديم الدليل على صحتها، ولذلك تمتلئ كتبه بالوثائق كأنه يقدم حافظة مستندات إلى المحكمة.
ويفسر ذلك باقتباس وضعه في صدر كتابه بين الصحافة والسياسة من أرثر سالزبورجر، مؤسس نيويورك تايمز:
“إن رأي أي إنسان في أية قضية لا يمكن أن يكون أفضل من نوع المعلومات التي تقدم إليه في شأنها. أعطِ أي إنسان معلومات صحيحة ثم اتركه وشأنه، سيظل معرضًا للخطأ في رأيه ربما لبعض الوقت، ولكن فرصة الصواب ستظل في يده إلى الأبد. احجب المعلومات الصحيحة، أو قدمها مشوهة أو ناقصة أو محشوة بالدعاية والزيف، إذن فقد دمرت كل جهاز تفكيره، ونزلت به إلى ما دون مستوى الإنسان”.
واهتم هيكل بالمجلات المتخصصة التي أصدرتها الأهرام، والتي لم تكن تستهدف الربح بل التنوير وتقديم المعلومات الصحيحة والتحليلات العلمية. فأصدر مجلة الطليعة برئاسة لطفي الخولي، والأهرام الاقتصادي برئاسة الدكتور بطرس غالي (الذي كان وقتها أستاذًا للعلاقات الدولية ثم عميدًا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية)، والسياسة الدولية برئاسته أيضًا.
أيام مع السادات
بعد تولي السادات الحكم وقف هيكل إلى جواره للتغلب على مراكز القوى. وبعد حرب أكتوبر، نشب خلاف بينهما حول تداعيات الحرب ومفاوضات فض الاشتباك. فخرج هيكل من الأهرام عام 1974 بقرار من السادات، الذي عيّنه مستشارًا لإبعاده عن الصحيفة بعد مقاله الظلال والبريق. لكن هيكل رد: “سلطة الرئيس قد تتيح له أن يقول لي: اترك الأهرام، لكن هذه السلطة لا تخوله أن يحدد لي أين أذهب بعد ذلك. القرار الأول يملكه وحده، والقرار الثاني أملكه وحدي”.
تفرغ بعد ذلك لتأليف الكتب ومحاورة زعماء العالم، وترجمت مؤلفاته إلى 31 لغة.
لكن انتقاداته المستمرة لسياسات السادات جعلته أحد معتقلي سبتمبر 1981. خرج مع بداية عهد الرئيس الأسبق مبارك.
وبعد أن أتم عامه الثمانين عام 2003 أعلن اعتزال الكتابة المنتظمة والعمل الصحفي بمقال بعنوان استئذان في الانصراف. لكنه عاد سريعًا، إذ طغى عشقه للصحافة، فكتب مقالات وقدم حلقات تلفزيونية مع فضائيات مصرية وعربية، كما أجرى حوارات مع زعماء العالم مثل فرنسوا ميتران، إمبراطور اليابان، الخميني، وعدد من الرؤساء العرب.
ترك للمكتبة العربية عشرات الكتب والمراجع السياسية: عودة آيات الله، الطريق إلى رمضان، أوهام القوة والنصر، حرب الثلاثين سنة، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، العروش والجيوش، أكتوبر 73 السلاح والسياسة، مصر والقرن الواحد والعشرين، أزمة العرب ومستقبلهم، مبارك وزمانه. وظلت كتبه الأكثر مبيعًا لسنوات.
خريف الغضب
بعد عامين من اغتيال السادات أصدر هيكل كتابه الأشهر خريف الغضب: بداية ونهاية عصر أنور السادات. اعتبره دراما تاريخية عن عهد السادات، كتبه بأسلوب “الفلاش باك” مبتدئًا بلحظة الاغتيال، عائدًا للوراء لشرح الأسباب التي قادت إليها.
صدر الكتاب أولًا بالإنجليزية في لندن عام 1982، ثم ترجمه هيكل بنفسه. مُنع دخوله مصر في البداية، وأثار جدلًا كبيرًا بين مؤيد ومعارض، حتى إن المعارضة نشرت أجزاء منه قبل صدوره محليًا. واعتبره البعض تجنيًا على السادات، بينما دافع هيكل عن حقه في التحليل.
في الكتاب استخدم المنهج السيكولوجي لتحليل شخصية السادات وقراراته، معتبرًا أن سياسة الانفتاح في السبعينيات أسست لدولة الفساد في مصر، ومتهمًا السادات بتوظيف الدين سياسيًا واستخدام الجماعات الإسلامية لمواجهة اليسار.
صحفي السلطة
دائمًا ما تردد أن هيكل اكتسب مكانته من قربه من السلطة. وأبرز من تبنى هذا الرأي صلاح عيسى، الذي رأى أن هيكل ظاهرة تاريخية تمثل ثنائية “الفرعون والكاهن”. لكنه رأي يفتقر للموضوعية لسببين، الأول أن موهبة هيكل وتألقه ظهرا قبل مجيء عبد الناصر، إذ حصل على جائزة فاروق في العهد الملكي، وكانت من أرفع الجوائز وقتها.
والثاني منذ خروجه من الأهرام عام 1974 وحتى وفاته، أي نحو 41 عامًا، كان بعيدًا عن السلطة السياسية، ولم ينحسر دوره بل ازداد تأثيره وعمق حضوره.
فقد ظل ملء السمع والبصر، وكل رأي يصدر عنه يثير الجدل. وأبرز دليل محاضرته في الجامعة الأمريكية عن التوريث، وندواته في معرض الكتاب، ورسائله لنقابة الصحفيين ضد قانون 93 في عهد مبارك حين وصف السلطة بأنها “شاخت في مقاعدها”، فهب الصحفيون وأسقطوا القانون.