بعد أكثر من نصف قرن على نصر أكتوبر، لا تزال مصر تخوض معارك من نوع آخر، فبدل الدبابات والمدافع، أصبحت المواجهة اليوم سياسية ودبلوماسية، تدور حول قضية لا تقل خطورة عن الحرب ذاتها: محاولات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء.
وبينما يتجدد الحديث كل فترة عن “خطة تهجير قسري”، تصرّ القاهرة على موقف واضح: سيناء ليست للحلول المؤقتة، ومصر لن تسمح بتهجير أي فلسطيني إلى أرضها.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نجحت مصر فعلًا في إيقاف هذا المخطط؟
القاهرة.. رفض قاطع وسعي دبلوماسي
منذ اندلاع الحرب على غزة، اتخذت مصر موقفًا حاسمًا عبّرت عنه مؤسساتها الرسمية بعبارات لا لبس فيها.
فقد أكدت وزارة الخارجية المصرية في بيان رسمي أن “أي محاولة لفرض واقع جديد في غزة أو إجراء تهجير قسري للفلسطينيين خارج أراضيهم مرفوضة شكلًا وموضوعًا، وتمثل خرقًا واضحًا للقانون الدولي وتهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري”، مشددة على أن “مصر لن تسمح باستخدام أراضيها تحت أي ذريعة لفرض حلول أحادية”.
وفي الوقت نفسه، واصلت القاهرة اتصالاتها المكثفة مع الأطراف الدولية والإقليمية لاحتواء الموقف، وفتحت معبر رفح بشكل متقطع لإدخال المساعدات، في مشهد حاول التوازن بين الإنسانية والسيادة.
الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.. موقف داعم
موقف القاهرة لم يكن وحيدًا، فقد أكد مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن “أي نقل قسري أو تهجير جماعي للفلسطينيين يُعد انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي الإنساني”، مشيرًا إلى أن “المجتمع الدولي مطالب بدعم جهود مصر والأطراف المعنية في تجنب هذا السيناريو الكارثي”.
الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الحقوقية الدولية أعلنوا رفضهم القاطع لأي شكل من أشكال التهجير القسري من غزة، واعتبروا أن نقل المدنيين بالقوة “جريمة حرب” وفق القانون الدولي.
سيناء.. أرض الصمود وليست أرض التهجير
في شمال سيناء، يعيش الأهالي حالة وعي ويقظة، فسيناء بالنسبة لهم ليست مجرد أرض، بل رمز صمود وتضحيات دفعوا ثمنها دمًا في حرب 1973.
ويقول العريف أحمد حامد عمر حميدة، أحد أبطال سلاح المهندسين في حرب أكتوبر: “إحنا حاربنا علشان الأرض دي تفضل مصرية، ومفيش قوة في العالم تقدر تخلي سيناء غير كده، لا زمان ولا دلوقتي. العدو حاول يخترق خطوطنا بكل الطرق، لكن زي ما وقفنا قدامه بالسلاح زمان، مصر النهارده واقفة قدامه بالسياسة والدبلوماسية.”
ويضيف العريف: “زي ما بنينا الكباري تحت القصف علشان نعدي الجنود ونثبت وجودنا، مصر دلوقتي بتبني مواقفها بنفس الصلابة علشان محدش يفرض عليها أمر واقع أو يهدد سيادتها.”
بين الميدان والدبلوماسية.. معركة مستمرة
قد لا تكون المعركة هذه المرة بالسلاح، لكنها لا تقل صعوبة. فالقاهرة تواجه ضغوطًا سياسية وإعلامية واقتصادية، تحاول دفعها نحو خيارات تتنافى مع ثوابتها الوطنية.
ومع ذلك، استطاعت الدولة المصرية حتى الآن أن تُفشل أي سيناريو فعلي لتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، وأن تثبت للعالم أن سيادتها غير قابلة للمساومة.
روح أكتوبر.. من ميدان الحرب إلى معركة السيادة
يرى الكاتب والمحلل السياسي عبدالله السناوي، أن ما يُعرف بـ “روح أكتوبر” لم تولد في السادس من أكتوبر فقط، بل بدأت منذ لحظة الهزيمة عام 1967، حين خرج المصريون في مظاهرات 9 و10 يونيو رافضين الاستسلام ومصممين على استعادة الأرض والكرامة، تلك الروح تجسدت في الإصرار على التصحيح والمراجعة، سواء على المستوى العسكري بإعادة بناء الجيش بقيادة الفريق أول محمد فوزي، والفريق عبد المنعم رياض، أو على المستوى السياسي من خلال الحراك الشعبي والطلابي الذي طالب بإصلاحات حقيقية داخل الدولة.
ويؤكد “السناوي” لـ ” القصة”، أن معركة أكتوبر لم تكن مجرد حرب لاسترداد الأرض، بل كانت ذروة مشروع وطني شامل كان يبني في المصانع والحقول كما في الجبهات، “لم يكن الجندي المصري يقاتل من أجل شعارات مجردة، بل من أجل حلم وطني حقيقي”، يقول السناوي، مشيرًا إلى أن نصر أكتوبر كان استمرارًا لروح رفض الهزيمة وبداية لإعادة بناء الدولة من جديد.
ويضيف أن “روح أكتوبر” اليوم يمكن أن تُستعاد في المواقف السياسية التي تدافع عن السيادة وترفض الإملاءات الخارجية، مثل موقف مصر الرافض لمحاولات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، “المعركة تغيّرت من السلاح إلى الدبلوماسية، لكنها في جوهرها معركة سيادة وكرامة وطنية”، يقول السناوي، مؤكدًا أن الحفاظ على حدود مصر هو الامتداد الطبيعي لروح أكتوبر التي انتصرت على أرض المعركة قبل نصف قرن.
روح أكتوبر حاضرة في معركة مصر الدبلوماسية ضد مخطط التهجير
قال اللواء سيد الجابري، الخبير الاستراتيجي، إن روح أكتوبر حاضرة في الموقف المصري الحالي، خصوصًا في رفض فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وأكد إن الموقف ده نابع من قناعة مصرية راسخة إن القضية الفلسطينية مش بعيدة عن الأمن القومي المصري، وإن مصر طول عمرها شريك أساسي في الدفاع عنها.
وأضاف الجابري لـ “القصة”إن الطريقة اللي بتتعامل بيها مصر النهارده مع الأزمة دي، فيها نفس روح التخطيط والإصرار اللي كانت موجودة وقت حرب أكتوبر، روح التمسك بالسيادة والاستعداد للتضحية، في وقت بيمثل فيه اليمين الصهيوني المتطرف خطر حقيقي بأفكاره العنصرية اللي بتحاول تكرر ممارسات التهجير والإبادة.
وأشار الخبير الاستراتيجي، إلى إن المعركة الدبلوماسية اللي بتخوضها مصر دلوقتي لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية سنة 73، موضحًا إن التكامل بين القوة العسكرية والسياسية هو اللي صنع النصر وقتها، وإن النهارده الجيش بيحمي الأرض والدبلوماسية بتحمي القرار، والاتنين في النهاية هدفهم واحد “حماية مصر من أي تهديد خارجي أو محاولة للمساس بسيادتها”.
البعد الإنساني.. مصر تفتح المعبر وتغلق الباب أمام التهجير
في الوقت الذي رفضت فيه القاهرة استقبال نازحين كحل سياسي، أبقت أبوابها مفتوحة أمام الجرحى والمرضى والمساعدات الإنسانية، هذا التوازن الدقيق بين الواجب الإنساني والحفاظ على الأمن القومي شكّل جوهر الموقف المصري خلال العام الأخير.
في ذكرى نصر أكتوبر تعود الروح ذاتها
مصر التي خاضت حرب العزة قبل خمسين عامًا، تخوض اليوم حربًا من نوع آخر، دفاعًا عن سيادتها وكرامتها، وعن حق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم.
قد تتغير الجبهات، لكن الرسالة المصرية ثابتة:
“من هنا عبرنا.. وهنا نبقى”