مرَّ واحد وخمسون عامًا على ملحمة أكتوبر 1973، وما زال المشاهد المصري والعربي لا يرى إلا عددًا محدودًا من الأفلام عن تلك الحرب المجيدة، منها الرصاصة لا تزال في جيبي والوفاء العظيم وبدور وغيرها مما يعرفه المشاهدون جميعًا، وهناك أفلام لم تُعرض بعد، ومن الواضح أن تلك الأفلام إنما صُنعت فقط لتواكب هذه الحرب وهذا الانتصار العظيم لجيشنا الباسل، ولهذا ظهرت بمعالجات سطحية وإنتاج لا يرقى إلى مستوى تلك الملحمة وما صاحبها من بطولات على كل الأصعدة: أرضًا وبحرًا وجوًّا.
وربما نلتمس العذر لصنّاع هذه الأفلام في وقتها، ولكن الذي جرى بعد ذلك، وبعد أن مرّت سنوات على هذا الانتصار الكبير الذي قلب موازين القوى الدولية، أمر يثير الحيرة والتساؤل، فقد سكتت السينما المصرية سكوتًا قاطعًا، ولم نسمع لها صوتًا، ولم نرَ بعد ذلك فيلمًا يليق بحجم ذلك النصر، فقد كان من المنتظر أن تتكاتف قوى الإنتاج السينمائي لتقديم عدد من الأفلام ضخمة الإنتاج، تتفق وعظمة البطولات التي لا تُحصى ولا تُعد من جنود مصريين ضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام والتضحية، وقدموا أرواحهم رخيصة من أجل وطنهم بعد سنوات من الصبر والتدريب والتخطيط العلمي الدقيق لدى كل القوات المصرية: طيران، ومدفعية، ومدرعات، وبحرية، ومشاة، وصاعقة، ومخابرات، واستطلاع، ومهندسون عسكريون، وغير ذلك.
وما يكمن وراء هؤلاء الأبطال قبل المعركة وأثناء حدوثها من قصص إنسانية بالغة في روعتها وعظيمة في قيمتها. والحق أن كل لحظة في تلك الحرب جديرة بأن يُصنع لها فيلم، وكذلك كل جندي وما قام به من بطولات نادرة الحدوث يستحق تسجيل بطولته لكي تبقى مفخرة للأجيال عبر الزمان، إنها ملحمة لن يُمحى أثرها مهما مرّت القرون وامتدت بنا الدهور، فهي عصيّة على النسيان، وستبقى صفعة قوية على وجه الصهاينة البغاة، يتألمون من جرائها ما عاشوا في هذه الحياة، يجللهم عار الهزيمة في معركة كشفت عن جوهر ومعدن المقاتل المصري، ووهن وجبن تلك العصابة الصهيونية.
ومما يحزننا أن معارك تاريخية وقعت في الغرب لا تضاهي معركة أكتوبر قوةً وإعدادًا وتخطيطًا، هوّلت السينما الأوروبية من عظمتها الزائفة وقصص بطولاتها، التي إن اجتمعت كلها في الحربين المعروفتين بالعالمية الأولى والثانية، لا تساوي قدر بطولة مقاتل مصري واحد في حرب أكتوبر.
ولعلنا نشير في هذا، على سبيل التمثيل لا الحصر، إلى بطولة اللواء طيار أحمد كمال المنصوري المعروف بـ”الطيار المجنون” في معركة المنصورة الجوية التي أذهلت العالم كله، إذ استمرت ثلاثًا وخمسين دقيقة في الأجواء المصرية، حاولت فيها مئةٌ وعشرون طائرة صهيونية في طلعة واحدة تدمير كل القواعد الجوية المصرية الكبيرة في الوجه البحري، ولكنها اضطرت إلى الفرار تجرّ ذيول الخيبة والحسرة بعد أن سقط منها عدد لم تكن تتوقعه، وعرفت أنها أمام نسور مصريين لا يهابون الموت، وبخاصة أن البطل اللواء المنصوري أقدم على عمل مناورة تُعرف بـ”مناورة الموت”.
ومع كل ذلك، فإن سينما الحرب ليست بالضرورة أن تقدّم أفلامًا عن المعارك بأسلحتها المتنوعة، ولكنها قد تقدّم أشياء أخرى لا تقلّ روعة وجمالًا عن البطولات العسكرية والقتالية، بمعنى أنها تغوص في القصص والمشاعر الإنسانية للمقاتلين الأفذاذ قبل الحرب وأثناء اندلاعها، لتكشف عن حقيقة وجوهر ومعدن المقاتل المصري الفريد، ذلك القادم من كل قرية ونجع، ومن كل حارة وزقاق، ومن كل فج عميق في الوطن، ليشكّل جيشًا وطنيًا شعاره “إما النصر أو الشهادة”.
وما أشدّ حاجتنا في وقتنا الراهن إلى تقديم هذه البطولات عبر صناعة سينمائية ترتفع إلى عظمة هذه البطولات، لتقديمها إلى شبابنا وأجيالنا الحالية والقادمة، لإخراجهم من ظلمات اليأس وافتقاد القدوة إلى نور الأمل والاستعداد للتضحيات من أجل وطن يستحق أن نقدّم له أرواحنا رخيصة كي تظل راياته عالية خفّاقة.
فهل ينتبه صنّاع السينما إلى هذه الدعوة، وينحّون جانبًا ما ابتُلينا به من سينما رديئة المحتوى تكرّس لضياع القيم وتشتيت أجيال بريئة تتلمّس شعاعًا تهتدي بضوئه إلى المستقبل المنشود؟
