لا تبدو الفجوة بين العاصمة والمحافظات مجرد اختلاف في مستوى الخدمات، بل حالة تشبه تشكل “دولتين” داخل الحدود نفسها.
الفجوة تتسع
في الأولى، تستقر الاستثمارات الضخمة وتتحرك الجرافات لبناء مدن جديدة وشركات عالمية ومراكز تجارية، وتضاء طرق ومجمعات حديثة.
وفي الثانية، يعيش ملايين المصريين في محافظات تتحرك ببطء، تنتظر استثمارًا حقيقيًا، وتعتمد على طرق متعبة ومستشفيات مرهقة، وفرص عمل تقليدية لا تقود إلى المستقبل.
ما يحدث اليوم ليس تباينًا عابرًا، بل إعادة رسم لخريطة مصر الاجتماعية والاقتصادية؛ إذ تزداد العاصمة ثراءً وجذبًا، بينما تبقى المحافظات خارج الحسبة، كأنها محطات نائية لا يصلها قطار التنمية.
منذ سنوات، تتجه بوصلة المشروعات الكبرى نحو العاصمة وحدها عبر مدن عملاقة، مثل العاصمة الإدارية والقاهرة الجديدة ومدينة أكتوبر والشيخ زايد، التي تنتشر بها الجامعات دولية ومراكز بحثية ومقار إقليمية لشركات عالمية والمستشفيات الخاصة المتقدمة والمشاريع العقارية التى تباع بالدولار.
بحسب بيانات حكومية منشورة العام الماضي، أكثر من 70% من الاستثمارات الخاصة تتركّز في القاهرة والجيزة وحدهما، بينما تتقاسم 25 محافظة البقية، هذا ليس توزيعًا طبيعيًا، هذا تغيير في اتجاه حياة المصريين نفسها.
نشتغل فين؟ نتعلم إيه؟ نلاقي فرصة إزاي؟
قال محمد سيد من محافظة أسيوط، لـ موقع “القصة”: “اتخرجت من هندسة اتصالات، بس مفيش شركات في المحافظة. كل الشركات الكبيرة في القاهرة، قدّمت كتير أونلاين ومحدش بياخد غير اللي عايش قريب. الإيجار في القاهرة لوحده أكبر من المرتب اللي ممكن أخده، يعني لازم أسافر بس براتب مش هيغطي انتقالاتي”.
قالت فرح رفعت، من محافظة المنيا لـ موقع “القصة”: “عايزة اشتغل في ماركتينج، ده حلمي. بس كل الكورسات المهمة في القاهرة، وكل الشركات اللي بتشغّل بنظام حديث هناك، هنا في المنيا الشغلانات التقليدية بس، كل اللي زيّي مضطرين يسافروا أو يغيّروا مجالهم”.
أرقام على الأرض
• أكثر من 55% من الوظائف النوعية تتركز في العاصمة.
• نسبة البطالة أعلى في أغلب محافظات الصعيد مقارنة بالعاصمة، وبعضها يتجاوز 20%.
• المحافظات تعاني نقصًا في المستشفيات المتخصصة، بينما تمتلك القاهرة وحدها أكثر من 60 مستشفى خاص كبير.
• الجامعات الدولية الحديثة كلها تقريبًا داخل العاصمة أو جوارها.
• التعليم الفني المتطور متوافر في القاهرة فقط، ما يعمّق الفجوة في المهارات.
قالت الدكتورة سامية خضر أستاذة علم الاجتماع، إن ما يحدث حاليًا يعكس “تمييزًا مكانيًا” لم تعرفه مصر من قبل، موضحة أن تركز المشروعات الحديثة داخل نطاق العاصمة خلق مجتمعًا متقدمًا يسبق باقي المحافظات بخطوات واسعة، وهو ما جعل الفجوة تتحول من مجرد فرق في الدخل إلى فرق في نمط الحياة ذاته.
وأضافت دكتورة علم الاجتماع، في تصريح خاص لـ موقع “القصة“، أن العاصمة تمتلك اليوم خدمات تعليمية وصحية وفرص عمل لا تتوافق مع ما هو متاح في المحافظات، لافتة إلى أن أطفال القاهرة ينشأون في بيئة أكثر دعمًا، بينما يضطر أطفال المحافظات للقتال من أجل الحصول على نفس الفرص التعليمية والمهنية.
وأكدت أن هذا الواقع يولّد اختلافًا في توقعات الناس وطموحاتهم وشكل مستقبلهم.
وأشارت خضر، إلى أن هجرة الشباب من محافظاتهم إلى القاهرة أصبحت ظاهرة اجتماعية مستمرة، ليس بحثًا عن الرفاهية، بل عن الحد الأدنى من الفرص، مشيرة إلى أن: “التنمية الحقيقية هي التي تجعل الشاب قادر يبني حياته في محافظته، مش لازم يقطع 300 كيلو عشان يلاقي فرصة”.
خليل طويل الأمد
قال الخبير الاقتصادي خالد الشافعي في تصريح خاص لـ موقع “القصة” إن استمرار تركز الاستثمارات في العاصمة فقط يخلق خللًا طويل الأمد في هيكل الاقتصاد المصري، موضحًا أن أي دولة ناجحة تعتمد على توزيع التنمية، وليس تجميعها في نقطة واحدة، لأن هذا التكدس يرفع التكلفة المعيشية في العاصمة ويترك المحافظات في حالة ركود.
وأضاف الخبير الاقتصادي، أن المحافظات تمتلك قدرات اقتصادية حقيقية، من زراعة وصناعة وسياحة، لكن هذه القدرات لا تتحول إلى استثمارات فعلية لغياب البنية التحتية الكافية ولأن المستثمرين يفضّلون البيئة الجاهزة في العاصمة.
وأكد أن “الاستثمار في المحافظات مش رفاهية، ده ضرورة لتحقيق توازن اجتماعي”.
وأوضح الشافعي، أن الحل يبدأ بإنشاء مراكز اقتصادية متكاملة في الصعيد والدلتا والمدن الساحلية، وليس إقامة مناطق صناعية على الورق فقط، واختتم قائلاً: “لو فضلت القاهرة وحدها هي المركز الوحيد للنمو، هنلاقي بعد كام سنة إن المحافظات بتفقد سكانها لصالح العاصمة، وده خطر اجتماعي قبل ما يكون اقتصادي”.
